شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: القهوة… والديمقراطية والشارع المصري . ورقة من مذكراتي

أول أمس، وفي عزّ أغسطس، والحر ينساب من جدران إسطنبول كما ينساب العرق من جبين النهار، جلست إلى مكتبي أحتسي قهوتي التي تُشبهني: مُرّة، ساخنة، وموغلة في الصدق.
كان أمامي شاشة تبثُّ لقاء الرئيس مع ثُلّة من القيادات الإعلامية، التي لا أعرف منها إلا أحمد المسلماني، الذي عمل باحثًا معي في ثمانينات القرن الماضي بمركز الوفد للدراسات السياسية الذي كنت مديرًا له.

اللقاء الهام، الذي ترأسه الرئيس السيسي شرحه وحلله الزميلان أحمد سميح والدكتور أحمد عطوان، وظلا لمدّة يقرآن ويحللان بعمق لغة الجسد كما يقرأ العرّاف خطوط الكف.
لكنني — وسط سطور التحليل ورشفات القهوة — انتبهت لاكتشاف ربما تأخرت فيه أكثر مما ينبغي، وهو: هناك شيئان لا نُنتجهما في مصر… حتى الآن: القهوة، والديمقراطية.

القهوة لا تنبت في مصر، فالتربة لا تعرفها، والماء لا يعانقها، والمناخ لا يغازلها.
ربما تركناها لشعوب تجيد احتضان بذورها. أما الديمقراطية، فنحرث الأرض بأنوفنا منذ قرن ونيف، وننثر البذور، ونصلي لسقيا الغيم، لكنها لا تُزهر لدينا.

بعد ثورة 1919، يوم تزاوج مطلب الاستقلال مع الدستور، غرسنا شجرة الديمقراطية في أرضنا.
ومنذ ذلك الحين ونحن نسقيها بالعرق، والدم، ونحرسها بالآمال، لكنها لم تُثمر إلا بقايا سوداء، كتفل قهوة في قاع فنجان مقلوب.

ربما لو أن الجهد الذي أضعناه في استزراع الديمقراطية أنفقناه على زراعة القهوة، لكانت مصر اليوم غابة ممتدة من البنّ، تعطر الصباح وتسكب النكهة في فم النهار.

الفارق بين القهوة والديمقراطية أن القهوة تُطهى في دقائق، وتفضح غشها رائحتها، أما الديمقراطية فتغشّها السلطات دون أن تشم رائحة الخديعة إلا متأخرًا.
وحينها يكون قد فات أوان الإصلاح.

القهوة تحتاج مالًا لتشتريها، أما الديمقراطية فلا تُشترى بعملة صعبة، لكنها تُباع في أسواق السياسة بعملة الصمت والرضوخ.

نحن خبراء في القهوة: نميز الرديء من الجيد، والطازج من البائت، والنقي من المغشوش.
جربوا خداعنا بالقهوة المصنوعة من الشعير أو الحمص أو الفاصولياء… فشلوا. لكننا، ويا للمفارقة، قبلنا ديمقراطية منزوعة النكهة، مشبعة بنشارة الخشب السياسية، وابتلعناها بلا مقاومة.

لو أننا نفهم في الديمقراطية كما نفهم في القهوة، لما كانت مصر تُدار من فنجان واحد، ولما كان مقعدها على مائدة العالم في آخر الصف.

ربما القهوة — بكل مرارتها — أصدق من الديمقراطية التي تُقدَّم لنا.
فالقهوة لا تكذب، تُصارحك منذ الرشفة الأولى بطعمها، لا تتجمّل، ولا تضع مساحيق النكهة.

أما ديمقراطيتنا، فتُشبه فناجين مزخرفة تخفي في جوفها ماءً باردًا بلا لون ولا رائحة، لكنها تُباع لنا على أنها شراب الحرية!

القهوة تعلّمك أن المرارة قد تكون لذيذة إن كانت حقيقية، والديمقراطية المزيّفة تعلّمك أن الحلاوة قد تكون سُمًّا إن كانت مصطنعة.

بين مرارة صادقة وحلاوة كاذبة، يظل الفارق مسافةَ وعيٍ لا تقطعها إلا أمة قررت أن تحرّر ذائقتها قبل أن تحرّر أرضها.

“كما نختار قهوتنا… يجب أن نختار حريتنا: بنكهة صادقة، بلا سكر سياسي، وبلا ماء كسراب الواهم.”

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى