
أكتب هذه السطور في الساعة السابعة صباحًا، من الأول من سبتمبر 2025.
هي نفس الساعة السابعة، لكن قبل ما يقارب ٤٠٠ ألف ساعة، أي ما يعادل ١٦ ألفًا وثمانين يومًا، كنت في مكان آخر تمامًا… خلف بابٍ حديدي يُغلق لأول مرة عليّ.
كان ذلك في سبتمبر 1981؛ يوم اعتقالي الأول، وأنا لم أزل شابًا في مقتبل العمر.
في تلك اللحظة، لم يكن السجن مجرد جدار وأقفال؛ كان إعلانًا مبكرًا بأن سبتمبر سيصير قدري، وكتابي، وامتحاني المتجدد.
كنتُ رئيسًا لاتحاد طلاب المدارس الثانوية ودور المعلمين والمعلمات، شابًا لم يعرف بعدُ سوى حماس الكلمات، وحلم التغيير.
لم تكن جريمتي سوى أنني قلت: إن للشباب حقًا في الصوت، وللطلاب دورًا في الوطن، وللحقيقة مكانًا بين الجموع.
جاءت سيارات الأمن في السابعة صباحًا؛ لم يكن ضوء الشمس قد اكتمل، لكن ظلال الخوف كانت أطول من كل الأشجار.
شعرتُ أن القاهرة بأكملها تستيقظ على دويّ الأبواب الحديدية أكثر مما تستيقظ على ضوء الفجر.
لم يكن السجن موتًا؛ كان ولادة أخرى.
لم أخرج كما دخلت: دخلت طفلًا يحمل أحلامًا بسيطة، وخرجت رجلًا يحمل جرحًا ووعدًا ووصية.
هناك تعلمت أن الصمت خيانة، وأن الكلمة، حتى لو وُلدت يتيمة، قادرة أن تُشعل ليلًا طويلًا.
كنتُ أسمع صوت أمي عند الأسوار، وهي تهمس في دعائها: “اثبت… فالوطن يستحق.” كان صوتها أقوى من صرير الأقفال.
رأيت وجوهًا من كل الأطياف: إسلاميين، يساريين، مثقفين، صحفيين…
أدركت أن الحرية لا تعرف حزبًا ولا مذهبًا.
لم يكن السجن عقوبة شخصية، بل كان رسالة لنظامٍ يخاف الكلمة أكثر مما يخاف الرصاص.
في زنزانة باردة، كتبت على الجدار: “لا تجعلوا السجن مقبرة، بل اجعلوه مدرسة.” كان الحائط صامتًا، لكن قلبي كان يردّد الجملة كتراتيل.
كل ساعة بعدها صارت امتدادًا لتلك الساعة؛ كل سبتمبر صار صدى لذلك اليوم الأول.
تعلمت أن السجن لا يُقاس بعدد القضبان، بل بعدد الدروس التي يحملها.
تعلمت أن الحرية شهيق، إن انقطع، ماتت الروح قبل الجسد.
لم تكن تجربة شخصية فحسب، بل كانت جزءًا من مصر نفسها، من قصة وطن يرفض أن يُخنق صوته.
حين خرجت، كان في عيني يقين جديد: أنني لن أعود كما كنت، ولن أصمت كما صمت كثيرون.
حملتُ وصية الزمن: لا تخف من الزنزانة، بل خف أن يُطفأ صوتك.
وحملت يقينًا أن سبتمبر ليس لعنة فقط؛ إنه هدية مغلفة بالصبر، يعيد تشكيل الروح، ويصقل الحلم.
في تلك التجربة الأولى، وُلدتُ من جديد: لم تلدني أمي، بل ولدتني التجربة والخذلان والصدمة، ومعها ولدت إرادة لا تعرف التراجع.
اليوم، بعد مرور 44 عامًا، أكتب هذه الورقة وأنا أعلم أن كل ما تلاها كان امتدادًا لها:
انتخابات، تزوير، اعتقالات جديدة، منفى بعيد… كلها فصول من كتاب واحد عنوانه الحرية.
أقولها بصدق: السجن المبكر لم يُنه حياتي، بل منحها معنى أكبر.
لم يكسرني سبتمبر، بل علّمني أن أنحني للعاصفة كي لا أنكسر، وأن أظل واقفًا حتى لو أثقلتني القيود.
وأقولها بطمأنينة: كلما عاد سبتمبر، عدت إلى تلك الزنزانة الأولى.
أضع يدي على جدارها البارد، وأسمع الوطن يقول: “لا تتراجع.”
إن كان السجن جرحًا، فقد صار أيضًا مرآةً كشفت لي أجمل ما في الإنسان: القدرة على الصمود، والإيمان أن الغد يولد من رحم الألم.
ربما أرادوا أن يقتلوا الأمل في داخلي، لكنهم زرعوا بذرة لم تُطفأ، شعلة لم تنطفئ.
لذلك أكتب في الساعة السابعة من سبتمبر 2025، بنفس اليد التي اعتُقلت بها في السابعة من سبتمبر 1981،
لأقول: ما زلت حيًّا… وما زالت الأغاني ممكنة.
هذه هي الورقة الأولى من سباعية “سبتمبر الذي لا ينتهي”.
وما زالت هناك أوراق أخرى تحكي عن انتخاباتٍ غُيّبت، وأوراقٍ لم تُقدَّم، وزنازين لم تُغلق بعد، ومنفى بلا جدران، ولعنةٍ كانت هدية، ووعدٍ لم يكتمل بعد.
هذه بداية الحكاية… مع سبتمبر…
أما بقيتها فسوف تأتي في سباعية الحلقات القادمة، من أول سبتمبر حتى السابع منه.