
الحديث عن دور المال في الانتخابات مجلسي الشيوخ والنواب 2025 يكتسب أهمية خاصة، ونظرا لأن قضية المال في الانتخابات في المجتمعات ذات الفوارق الاجتماعية الكبيرة كمصر، حيث يقل عدد الحائزين على غالبية الدخول، وتزداد نسبة الفقر والأمية، يصبح المال ذو أهمية كبيرة، خاصة في شق الدعاية خاصة والحملات الانتخابية خاصة. هنا تقوم فئة محددة من أبناء المجتمع معظمهم من القادرين، بالترشيح لعضوية المجلسين شبه المنتخبين، أما الفقراء، فإنهم قلما يشاركون في الترشيح لعضوية المجلس النيابي، إذ أنهم على الأرجح يشاركون في الاقتراع، وبعض هؤلاء يغريهم ما يقدم من حوافز عبر الرشاوى الانتخابية.
ولا يتناول هذا المقال السبل الكفيلة لمواجهة ظاهرة سطوة المال في الانتخابات، قدر ما يتطرق إلى الأبعاد المختلفة لتلك الظاهرة بمختلف جوانبها.
بداية يقصد بالمال الانتخابي، كل ما يدفع لكافة الأمور المتصلة بالانتخابات، بهدف الحصول على العضوية في البرلمان، أو منع الأخرين من تلك العضوية، إضافة بالطبع لإدارة الانتخابات رسميا وغير رسميا. وكل ما سبق يتم بعض بنوده وأوجه صرفه بشكل مشروع وربما يكون بعضه غير مشروع، لأنه لا انتخابات بدون مال. لأن القائمين على العملية الانتخابية وأطرافها يكونوا غير مستعدين لتحمل تلك الأعباء لولا الانتخابات. وفي هذا الصدد ، تدخل المرتبات وزيادتها، والوعود بتشغيل العاطلين عن العمل، والترقيات، وزيادة الحوافز والمكافآت، وإسقاط الديون، والرشاوى الانتخابية، وكافة نفقات الدعاية الانتخابية، وغيرها من الأمور والإيجابية أو السلبية…الخ ، ضمن الأمور التي تعد دوراً للمال في الانتخابات.
ووفقاً للمفهوم أنف الذكر للمال الانتخابي ، يمكن أن يتطرق أي حديث حول هذا الموضوع إلى خمسة أمور أساسية هي :- الطرف الذي يوجه إليه المال في العملية الانتخابية، وشكل المال المقدم في الانتخابات، والعلاقة بين المال المقدم وطبيعة المنطقة أو الدائرة الانتخابية، والغرض من المال المقدم في الانتخابات.
الطرف الذي يوجه إليه المال الانتخابي
يوجه المال الانتخابي بشكل عام، ووفقاً للتجربة المصرية أيضاً، إلى خمسةمصادر. مديرو الانتخابات، والمرشحون(بكسر الشين)أي القائمون على ترشيح أعضاء البرلمان، والناخبون، والمرشحون(بفتح الشين)أي الأشخاص المرشحون للانتخاب لعضوية البرلمان.
ويتجه المال الموجه إلى المصدر الأول لأعضاء الهيئة الوطنية للانتخابات وموظفى الاقتراع والفرز. وتعتبر تلك المبالغ كبيرة للغاية، لأن بعضها يُصرف شهريا، يكفي القول أن الأعضاء العشرة من القضاة، ووفقا لما ذكره ضياء الدين داود في مناقشة موازنة 22/2023 يتقاضى الواحد منهم 230ألف جنيه بدون حساب الأجور والبدلات(موقع العربي الجديد21يونيو2022).
وبالطبع تلك المبالغ كان يتوقع أن يقوم هؤلاء العشرة بدور رائد نظيرها، لكن لا يبدو أن ذلك صحيحا، يكفي أنه في أخر انتخابين وهما “الشيوخ” 2025 والرئاسة2024، لم تُكلِف الهيئة نفسها عبء إعلان النتائج التفصيلية على مستوى اللجان الفرعية.
الجهة الثانية، القائمون على إعداد القوائم الحزبية للمرشحين، وهؤلاء قد يكونوا أحزابا أو أفرادا، ويرتبط هذا الأمر بعملية الفساد الهيكلي داخل العديد من البلدان النامية، حيث يأمل المواطنين أن تقوم الأحزاب وخاصة الحاكمة أو قيادات تلك الأحزاب بترشيحهم على قوائمهم، ويقوم هؤلاء مقابل ذلك بدفع مبالغ مالية ضخمة للقائمين على ترشيحهم.
ومما لا شك فيه، أن تلك المبالغ الكبيرة التي تدفع لهذا الغرض، يرى من يدفعها أنها محدودة مقابل ما ستعود عليه عضوية البرلمان بالنفع من جراء اكتساب الوجاهة الاجتماعية أو استغلال العضوية في أعمال غير مشروعة تغدق عليه الأموال المستنزفة من أقوات المواطنين، وذلك كله نتيجة استغلال الحصانة البرلمانية، التي توفرها البرلمانات لأعضائها، والتي تتيح لذوي الضمائر الضعيفة، حرية ممارسة أنشطتهم غير المشروعة.
ولعل تتبع ما يثار من مال مدفوع لأطراف الحزبية نظير ترشحيها لأسماء بعينها للنزول عبر القائمة المطلقة هو أبلغ دليل على الفساد غير المنظور، وهو ما ذكره البعض بأن هناك بالفعل مدفوعات بالملايين دفعت مؤخرا لأحزاب مقربة من الدولة المصرية نظير ذلك في انتخابات الشيوخ2025.
أما الجهة الثالثة، فهو توجيه المال إلى الحزب القائم بالترشيح، وفي هذا الإطار يدعم الأفراد والمنظمات، الأحزاب السياسية وغيرها من القوى القائمة على الترشيح في البرلمان، والتي يُرى أنها يمكن أن تُعبر عن توجهات هؤلاء في المجتمع، وذلك كله بغرض دفع هذه الأحزاب والقوى السياسية إلى تقديم مُرشحيها في الانتخابات، والإنفاق على الدعاية الانتخابية، بما يضمن فوز بعض هؤلاء المرشحين بعضوية البرلمان.
وهذا النوع من الدعم، هو دعم مشروع، لأنه لا يوجه لأشخاص، وإن كان يرتبط بدعم حزب أو جماعة مصلحة أو خلافه. وقد برز ذلك الدعم فيما كان يقدم في الانتخابات للأحزاب المصرية اليسارية، كونها محدودة الموارد لمالية، مع بداية التعددية الحزبية الثالثة في مصر في11/11/1976.
أما الجهة الرابعة، فهو توجيه المال إلى الناخبين أنفسهم، وذلك كنوع من الرشوة المباشرة بشراء أصواتهم، وذلك بشكل فردي أو جماعين استغلالاً للمصاعب الاقتصادية التي يعيشونها، وتمشياً مع مناخ الأمية الرازح تحته هؤلاء.
وبطبيعة الحال، فإن صور المال المقدم في هذا الإطار متعددة. غاية ما هنالك، أن هذا النوع من المال الانتخابي، يتسم بالانتهازية والفساد، وهو أسلوب عادة ما يستخدم في بلدان العالم الثالث، واستُخدم ولا يزال في مصر بشكل كبير. ورغم أن السلطة في مصر عابت على الإخوان المسلمين استخدام تلك الوسيلة، إلا أنه تبين من كافة الانتخابات التي جرت عقب مغادرة الإخوان السلطة بما فيها انتخابات الشيوخ2025، أن هذا الأمر استخدم بشكل كبير، ما يجعله سمة مصرية خالصة في انتخابات اليوم، أي أنه أمر لا ترتبط بالضرورة بطبيعة القائمين على الحكم.
شكل المال المقدم في الانتخابات
وتختلف أشكال وصور المال المقدم في الانتخابات، إذ قد يأخذ هذا المال صورة سيولة مادية وما شابه، أو خدمات. ففيما يتعلق بالسيولة المادية، يتم ذلك من خلال أمرين:-
مال مقدم لشخص قيادي حزبي وهو عادة كادر كبير يقوم بدعم ترشيح شخص ما على قائمه حزبه، أو مقدم لأحد المرشحين لتنازله عن الترشيح، أو مقدم للناخبين(سيولة أو كراتين تموين وهدايا)، ويُدفع المال السائل في هذه الحالة بشكل نقدي، وليس شيكات، لأن المال المقدم يتم بشكل غير مشروع، ومن ثم يخشى من تداول الشيكات في هذا الصدد، حتى لا يُكتشف الأمر في يوم من الأيام، وتصير فضيحة كبرى لهذا المسئول أو القيادي أو المرشح أو الناخب. وأبرز صور المال هنا في انتخابات اليوم، المال السائل أمام مقرات الاقتراع للتصويت لمرشح أو لقائمة مطلقة، بهدف إنجاح الأول، أو تخطى نسبة التصويت لعدد5% من الناخبين، كما حدث في الاهتمام الكبير للوصول لهذه النسبة في انتخابات الشيوخ2025.
مال مقدم عبر شيكات لدعم حزب أو قوى سياسية في العملية الانتخابية عامة ، أو مرشح محدد في معركته الانتخابية في أحد الدوائر التي تهم الطرف المانح .
الأمر الثاني، أن المال قد يقدم في صورة خدمات، وفي هذا الصدد تنقسم الخدمات المقدمة إلى نوعين، خدمات شخصية يقدمها المرشح أو تقدم للمرشح، وخدمات عامة لأبناء الدائرة. فيما يتعلق بالخدمات الشخصية ، يقدم المال الانتخابي في صورة خدمات للناخب، خاصة الناخب الذي لديه القدرة على قيادة مجموعة لا بأس بها من الناخبين.
كما قد تقدم الخدمة للمرشح المنافس، مقابل تنازله عن الترشيح، كأن يُعين في وظيفة ما، أو يُرقى لدرجة أكبر ..الخ. ولعل أبرز صور الخدمات الشخصية في الانتخابات، تلك التي تُقدم للمرشح من قبل رجال الأعمال وبعضهم قد يُجبر على ذلك، وهو أمر شائع في مصر حيث تدفع الحكومة البعض لفعل ذلك.
ويأخذ هذا العمل في الأغلب الأعم صورة عمل من أعمال الدعاية الانتخابية، وذلك في صورة تجهيز أماكن لعقد مؤتمرات انتخابية، أو لافتات، أو إعلانات عبر وسائل الإعلام المختلفة. وقد حدث كثيراً في مصر أن تجاوزت نسبة الدعاية الانتخابية للمرشح المبلغ المقرر، فكانت حُجة المرشح أن الناخبين أنفسهم هم من دفعوا تلك المبالغ ، ومن ثم فإنه لم يخرق القانون.
أما فيما يتعلق بالخدمات العامة، فيقدم المال على شكل خدمة ما لأبناء الدائرة أو مجموعة دوائر عموماً كبناء مدرسة أو مستشفي أو رصف طريق أو شق ترعة أو بناء دور عبادة…الخ، ويتسم هذا النوع من المال بالعمومية، بمعنى أنه عمل يستفيد منه معظم الناخبين من أبناء الدائرة، ولذلك قد يقوم الحزب الحاكم نفسه بهذا النوع من الخدمات دعماً لمرشحيه، وذلك خصماً من ميزانية الدولة.
العلاقة بين المال والدائرة الانتخابية
يتوقف حجم المال الانتخابي المباشر أي المدفوع في صورة أموال سائلة(نقداً أو شيكات)، على المنطقة التي تجرى فيها الانتخابات، من حيث كون تلك المناطق حضرية أو ريفية أو بدوية .
ففي المناطق الحضرية، تزداد درجة اللجوء إلى المال، خاصة بين المرشح والناخب، وذلك نتيجة عدم المعرفة المسبق بين المرشح وغالبية الناخبين، واستغلالاً من المرشحين لضعف القدرات الاقتصادية للناخبين، وسعياً لكسب الكثير من المرشحين لأكبر عدد من الأصوات في مواجهة الخصوم، الذين يتسمون بالكثرة داخل الدائرة الانتخابية الواحدة.
وعلى العكس من ذلك، فإن العلاقة بين الناخب والمرشح في المناطق الريفية والبدوية، تحكمها العصبيات، ويصبح المال المباشر فيها وسيلة غير متواترة الاستخدام في العملية الانتخابية. ناهيك بالطبع عن أن قلة عدد المرشحين النابع من اتفاق الدائرة على وجود عدد محدد من أبناء الدائرة سوف يجرى السباق الانتخابي بينهما، يحد إلى درجة كبيرة من دور المال الانتخابي .
غرض المال وشكله
قد يكون الغرض من المال الانتخابي هو جلب التأييد لمرشح، أو منع التأييد عن مرشح. وقد يكون غرضه تحييد المرشحين أو الناخبين. وتتم أكثر صور تحييد المرشحين، بتنازلهم عن الترشيح. أما تحييد الناخبين، فتتم بدفع المال لضمان عدم تصويتهم للمرشح الموالي أو الخصم في ذات الوقت.
ويقدم المال الانتخابي في شكلين مختلفين، وهو ما يظهر في مصر بوضوح، أولهما مال مدفوع، والثاني مال مؤجل الدفع. فيما يتعلق بالمال المدفوع ، يتم استخدام هذا الأسلوب عادة قبل الانتخابات، حيث يلجأ إلى هذه الوسيلة لضمان سرعة استجابة الطرف الذي يقوم بدفع المال لرغبات الطرف المتلقي للمال، وذلك كي يستخدم المال الذي يتم ضخه، لدعم الدعاية الانتخابية، أو لتنازل مرشح، أو لتضمين قائمة الحزب لمرشح ما.
أما المال المؤجل، فهو المال المقدم في شكل وعود انتخابية، وعادة ما تقدم تلك الوعود بحق الناخبين من أبناء الدائرة أو جماعة من الأشخاص من قادة الرأي والذين يملكون كتل تصويتية كبيرة داخل الدائرة. وفي هذا الصدد ، يوعد المرشح على سبيل المثال بعض الناخبين بالعمل في وظائف ومحددة، إذا ما انتخب، كما يوعد المرشحين أو الأحزاب المرشحة في الانتخابات، بدعم البنية الأساسية للدائرة في مجالات الصحة أو التعليم أو المواصلات …الخ ، إذا ما فاز في الانتخابات. وأهم ما يظهر من ذلك في الانتخابات المصرية، تنازل الحكومة عن غرامات بحق الناس قبل موعد الاقتراع، مثل رفع غرامات زراعة الأرز في مناطق غير مخصصة لزراعته.
وختاماً : يتبين أن هناك تعدد في أشكال استخدامات المال في الانتخابات البرلمانية. وبطبيعة الحال، فإنه كلما كان الاعتماد على المال في الانتخابات متزايداً، كلما كانت المعركة الانتخابية، تتم بشكل منحاز لصالح القوى التي تملك القدرة المالية الضخمة، وهي ليست بالضرورة القوى صاحبة الحق الشرعي في التمثيل في عضوية المجالس النيابية.
ولذلك، فإن أي معالجة محتمله لإصلاح النظام الانتخابي، يجب أن تتطرق حتماً إلى قضية الدعاية الانتخابية خاصة، وتنظيم استخدام المال في الانتخابات عامة. ومما لا شك فيه، أن مثل هذا الإصلاح يجب أن يسد جميع أو معظم الثغرات سابق الإشارة إليها، للقضاء على سطوة المال غثير المشروع في الانتخابات، وسد منابع الفساد الانتخابي، ووصول ممثلي الناخبين الحقيقيين لمقاعد البرلمان.