
السقوط لا يبدأ حين تسقط الحكومات، بل حين تنهار المجتمعات، وتتداعي الثقة في الحكام. خمس رسائل خطيرة علينا أن نقرأها قبل فوات الأوان، من باريس إلى القاهرة، منذ الأمس، يتردّد صدى رسالة واضحة هي:
“العجز حين يُدار بالدَّين وحده، يتحوّل من رقمٍ في دفاتر وزارة المالية، إلى أزمةٍ تلتهم ثقة الشعوب ومصداقية الدول”.
الإصلاح المالي “المحاسبي” بلا حوار اجتماعي عادل وحقيقي يُنتج شوارع غاضبة. و”الحوار بلا أرقام صادقة يُنتج بيانات فارغة”. وما بين هذين “الفخَّين”، تتجسّد معادلة الرشد السياسي: توازنٌ بين العدل والصدق.
سقوط حكومة فرانسوا بايرو بعد حجب الثقة لم يكن حدثًا عابرًا في فرنسا وحدها. بل كان كاشفًا لحقيقةٍ عارية: أن ثاني أكبر اقتصاد أوروبي لم يَعُد قادرًا على التوفيق بين قواعد بروكسل الحديدية، وبين مطالب شارعٍ يئنّ تحت ضغوط المعيشة. تلك اللحظة تحمل لـمصر، كما لغيرها من دول الجنوب، دروسًا لا تُشترى بالمال.
أرقام فرنسا الصادمة، بعجزٍ يقارب 6٪ من الناتج، ودَينٍ يتجاوز 114٪، ليست بعيدة عن أرقامنا التي نُخفيها أو نُهوّن منها. الفارق أن باريس تُحاسَب في برلمانٍ حيّ، وتُوبَّخ من الاتحاد_الأوروبي، بينما تُدار أزماتنا في صمتٍ رسميٍّ، أو في ضجيج إعلاميٍّ يبرّر أكثر مما يُصارح.
الدرس الأول مصريًا أن المديونية ليست مجرد أداة لتمويل المشروعات، بل هي قيدٌ يُطوّق الإرادة السياسية. فرنسا، رغم قوتها، عجزت عن تمرير موازنة أمام ديونها. فما بالُ دولةٍ كالقاهرة، التي تراكمت ديونها الخارجية من أقل من 40 مليار دولار قبل عشر سنوات إلى ما يناهز 170 مليار دولار منتصف هذا العام؟
الدرس الثاني أن العجز المالي إذا لم يُعالَج برؤية إنتاجية، يتحوّل إلى أزمة ثقة شاملة. الأرقام ليست أوراقًا جامدة، بل مرآة تعكس حجم الفجوة بين المواطن والدولة. حين يفقد الناس ثقتهم في جدوى الإصلاح، تصبح الأرقام أدوات تعبئةٍ للغضب لا أرقام موازنة.
داخليًا في فرنسا، تتجسد المعادلة بين يمين متطرف يزحف، ويسار تعبويٍّ يستعيد زخمه، ووسطٍ يتآكل. المشهد يذكّرنا بخطورة إقصاء القوى السياسية الطبيعية في أي بلد، إذ يتحوّل الغياب إلى فراغ، والفراغ إلى صعود تياراتٍ متطرفة.
أوروبا كلها تتأثر: اهتزاز باريس يعني اهتزاز اليورو، وازدياد نفوذ برلين، وتقدّم مدريد وروما كبدائل في الدبلوماسية المتوسطية. الدرس هنا لمصر أن تنويع الشراكات الأوروبية ضرورة، وألا نرهن مستقبلنا بعلاقةٍ واحدة مهما كان تاريخها.
في الصراع الروسي الأوكراني، سيتأثر التمويل والتسليح. باريس التي كانت رافعة رئيسية للمعسكر الغربي، ستتردّد. موسكو استغلت اللحظة فورًا لتعلن أن أوروبا منهكة. بالنسبة لـمصر، هذا يعني أن الحرب قد تطول أكثر، وأسعار الطاقة والحبوب ستظلّ رهينة هذا الصراع.
في الشرق الأوسط، تتراجع قدرة فرنسا على لعب أدوار الوسيط: في لبنان، حيث كانت باريس راعيةً لتوازنات هشة، وفي تونس، وفي ليبيا والساحل الأفريقي. انسحاب فرنسا يفتح الساحة أمام تركيا، إيطاليا، وإسبانيا، وأمام نفوذ خليجي متصاعد.
على صعيد العلاقات المصرية الفرنسية، لا يتوقع انهيارٌ للعقود القائمة في مجالات التسليح والطيران والبنية الأساسية. لكنّ تباطؤًا في جداول التمويل محتمل، بل وقد تُراجَع شروط القروض الممنوحة للقاهرة. هنا يلوح درسٌ ثالث: أن الاعتماد المفرط على دولةٍ مثقلة بديونها يضاعف هشاشتنا.
الشركات الفرنسية الباحثة عن متنفس خارج أزمتها قد تدفع أكثر نحو استثمارات في مصر وشمال_أفريقيا، لكن بشروط أقل سخاءً، وفوائد أعلى. علينا أن نقرأ هذه اللحظة بعينٍ يقظة، لا بعينٍ متلهفة.
المغرب وتونس والجزائر سيعيدون صياغة معادلاتهم. المغرب سيراهن على شراكات بديلة مع إسبانيا وإيطاليا، تونس قد تجد نفسها في فراغٍ دبلوماسيٍّ تستغله قوى أخرى، الجزائر ستوظّف ورقة الغاز كأداة ضغط ومساومة. وكلها ملفات تلتقي مع المصالح المصرية في المتوسط وأفريقيا.
أفريقيا الفرانكوفونية، من الساحل إلى غرب القارة، ستعيش تحولات أكبر. انكفاء فرنسا سيترك مساحاتٍ لـروسيا عبر “فاغنر”، ولتركيا، وللقوى الإقليمية الأخرى. مصر، بصفتها شريكًا طبيعيًا في أفريقيا، يمكن أن تملأ بعض هذا الفراغ عبر مبادرات تنموية وثقافية، لا عسكرية فقط.
في الداخل الفرنسي، يتصاعد صوت جانلوكميلونشون، فيما تزداد احتمالات بروز شخصية وسطية توافقية، ربما سيدة، قد تقود حكومة تكنوقراط–سياسية تُرضي البرلمان وتطمئن الشارع. السيناريوهات الثلاثة واضحة: حكومة وسطية محدودة البرنامج، انتخابات مبكرة مغامرة، أو شلل طويل الأمد.
بالنسبة لـمصر، يعلّمنا هذا أن الاستقرار السياسي لا يُشترى بالقروض، بل يُبنى بتحالفات اجتماعية وسياسية صادقة. البرلمان الحيّ، ولو كان مشاكسًا، هو صمّام أمان، لا عائق.
الاقتباس الذي أطلقه وزير المالية الفرنسي برونو لومير: “لقد وصلت فرنسا إلى الحد الأقصى من قدرتها على المديونية” هو في جوهره رسالة لنا أكثر مما هو لبرلمانه. فمن يتجاوز حدود القدرة على الديون، لا يملك سوى خيارين: الانهيار، أو المراجعة الصادقة.
الأسواق الأوروبية لم تُجامل باريس، فكيف ستجامل القاهرة إن تكررت نفس المعادلة؟ الفرق أن فرنسا تملك اقتصادًا إنتاجيًا أعمق، ومؤسسات نقدية أقوى، بينما اقتصادنا أكثر هشاشة وأقلّ قدرة على امتصاص الصدمات.
على المستوى العربي، القضية_الفلسطينية ستجد نفسها أمام مشهد جديد: باريس التي كانت داعمة لحل الدولتين بلهجةٍ أوضح من برلين أو واشنطن، ستنكمش. لبنان، الغارق في أزماته، سيفقد وسيطًا تاريخيًا كان يوازن بين طوائفه. مصر لا تستطيع أن تبقى متفرجًا في هذين الملفين.
الخليج بدوره سيستغل اللحظة: استثماراته في فرنسا، وصفقاته معها، ستُعاد صياغتها، وباريس ستحتاجه أكثر. القاهرة يمكن أن تكون جسرًا ناعمًا في هذا التوازن، لكنها إن لم تحسن التموضع، ستتحول إلى ورقة تفاوضٍ بيد الآخرين.
الدرس الرابع أن الشفافية ليست ترفًا. فرنسا كشفت أرقامها القاسية وتحمّلت عواقبها. مصر لا تستطيع أن تواصل سياسة الحجب أو التجميل. الشفافية، ولو مؤلمة، هي الطريق الوحيد لاحتواء الغضب الاجتماعي وإعادة بناء الثقة.
الدرس الخامس أن البدائل الاستراتيجية ضرورة. حين تهتز باريس، لا بد أن يكون للقاهرة أبواب أخرى في برلين، مدريد، روما، وحتى في أنقرة. التنويع ليس خيارًا، بل حزام أمان.
خلاصة الدروس المصرية من باريس أن الإصلاح لا يمكن أن يكون حسابيًا فقط. هو معادلة سياسية–اجتماعية–اقتصادية متكاملة. من يختزلها في أرقام الدين والعجز، يكتشف متأخرًا أن الأرقام تتحوّل إلى هتافات في الشارع، وأن الهتافات تتحوّل إلى سقوط حكومات.
مصر مطالبة أن تقرأ في سقوط الحكومة الفرنسية درسًا لذاتها قبل أن تقرأه في شاشات الأخبار. العجز والدين إذا تُركا بلا معالجة إنتاجية وحوار وطني صادق، فلن يكون السؤال: “هل نسقط؟” بل “متى؟ وكيف؟ وبأي ثمن؟”
في الختام
ليست باريس بعيدة. الدرس الذي سقط هناك مكتوب بمدادٍ غليظ على جدراننا نحن: الأزمات لا تُدار بالمسكّنات، بل بالحقيقة. والرشد السياسي معناه أن نتعلّم من غيرنا قبل أن يكتب التاريخ نفس الدرس على أبوابنا.