مقالات وآراء

مصباح العلي يكتب: من الهيمنة إلى الشراكة.. كيف تعيد روسيا رسم دورها في سوريا ولبنان؟

في صيف 2025، بدت موسكو وكأنها تعيد كتابة استراتيجيتها في المشرق العربي، ولكن بأدوات جديدة، فبين زيارة تاريخية لوزير الخارجية السوري الجديد إلى العاصمة الروسية، وانتخاب رئيس لبناني تضع عليه القوى الدولية آمالًا في إنقاذ ما تبقّى من الدولة، بدت روسيا وكأنها تتحول من “قوة راعية” إلى “شريك انتقائي” يبحث عن موقع أكثر توازنًا، وأقل كلفة في ساحتين معقدتين: سوريا ولبنان (Ramani, 2025).

سوريا: نهاية دور “الراعي” وبداية التموضع المرن مع سقوط النظام السوري السابق دخلت العلاقة بين دمشق وموسكو مرحلة جديدة عنوانها “إعادة التموضع الاستراتيجي”، فزيارة الوزير السوري أسعد الشيباني إلى موسكو، ولقاؤه بالرئيس فلاديمير بوتين شكّلت إعلانًا صريحًا بأن العلاقة لم تعد قائمة على منطق الحماية، بل على أساس الشركة وإعادة التوازن في المصالح.

(Russia’s Role in a Post-Assad Syria, 2025) وفي هذه الزيارة برزت ملفات غير مسبوقة في تاريخ العلاقة بين البلدين أبرزها مطلب تعويضات عن الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية السورية خلال الحرب، وهو ما طُرح في إطار العدالة الانتقالية، لا من باب المواجهة السياسية.

كذلك أُعيد فتح ملف القواعد العسكرية الروسية في حميميم وطرطوس، بحيث أبدت موسكو استعدادها لمراجعة طبيعة وجودها العسكري وتحويله إلى “شراكات” أمنية مؤقتة، بدل الانتشار الدائم الذي كان يُمثّل رمزًا للنفوذ الروسي في المنطقة.

(Business Insider, 2024) في المقابل، تسعى دمشق إلى تنويع تحالفاتها عبر الانفتاح على الخليج وأوروبا، بهدف تقليل الاعتماد على طرف واحد، خصوصًا في ملف إعادة الإعمار.

وهنا تجد روسيا نفسها أمام معادلة معقّدة: كيف تحافظ على نفوذها دون أن تبدو وكأنها تُعيد إنتاج النظام السابق أو تحتكر القرار السوري؟

الإجابة الروسية تبدو حتى الآن متوازنة وهي ما بين الدعم السياسي والوجود المرن بلا تدخل مباشر في شكل النظام أو تركيبته، وهذا ما يُمثل في حد ذاته تحولًا عميقًا في الرؤية الروسية للملف السوري من قوة عسكرية حاسمة إلى شريك يُبقي على حضوره عبر الاقتصاد والديبلوماسية، لا الدبابات والطائرات فقط.

(The New Arab, 2025) لبنان: فرصة جديدة من باب الدولة لا الطوائف على الضفة اللبنانية، بدت موسكو وكأنها تُجرّب مقاربة مختلفة كليًا، فانتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية أعطى روسيا نافذة جديدة للتأثير في لبنان من داخل الدولة، لا عبر وكلاء أو حلفاء طائفيين.

(Tashjian, 2025) فخلافًا لتقليدها السابق القائم على دعم قوى حزبية كحزب الله أو أطراف مسيحية، تسعى موسكو اليوم إلى ترسيخ علاقة مباشرة مع المؤسسات السيادية وهي: الجيش، رئاسة الجمهورية، والأجهزة الأمنية.

وقد رحّب الرئيس عون نفسه بهذا التوجه، متحدثًا عن “شراكة روسية عقلانية” تركّز على دعم الاستقرار وتطوير القطاعات الدفاعية والإنتاجية، ضمن توازن محسوب مع الشركاء الغربيين والعرب.

(Kraus, 2025) التغيرات في لبنان تزامنت مع تراجع نسبي في الحضور الإيراني، وانشغال طهران بملفات إقليمية أكثر إلحاحًا، وعلى رأسها الملف السوري والحرب المفتوحة مع إسرائيل، ولعلّ هذا الفراغ الجزئي في لبنان فتح الباب أمام موسكو للتموضع بهدوء، عبر أربعة مسارات متوازية:

• التحول من دعم الأطراف إلى دعم الدولة: وهو تحوّل يُعتبر جديدًا في تاريخ السياسة الروسية في لبنان.

• التعامل المتوازن مع حزب الله: فموسكو لا تقطع العلاقة، لكنها تنقلها إلى مستوى جديد يتماشى مع خطاب الدولة اللبنانية.

• دور اقتصادي صاعد: لا سيما في الطاقة والمرافئ والزراعة.

• نفاذ جيوسياسي إلى شرق المتوسط: يجعل من لبنان جزءًا من رؤية استراتيجية أوسع تشمل سوريا، وقبرص، وليبيا. (Hezbollah–Russia relations, 2025)

روسيا بين ساحتين: المراجعة لا الانسحاب ما تشهده موسكو اليوم ليس انسحابًا من المنطقة كما يروّج البعض، بل إعادة تموضع استراتيجية تفرضها التحولات السياسية في سوريا ولبنان، ففي دمشق، لم تعد روسيا قادرة على فرض أجندتها كما في السابق، لكنها تدرك أن وجودها يبقى ضروريًا لأمنها الإقليمي ونفوذها الدولي.

وفي بيروت، تجد روسيا نفسها أمام فرصة نادرة لتوسيع تأثيرها ضمن مؤسسات الدولة، لا عبر الطوائف والأحزاب.

بالتالي، إن روسيا اليوم وفي قراءتها الجديدة للمشرق، تُدرك أن أدوات القوة الخشنة لم تعد تجدي نفعًا، فالمستقبل في هذه المنطقة المعقّدة يُبنى على الشراكات المرنة، والتحالفات المتعددة، والتوازنات الدقيقة، وليس على قواعد جوية ولا بحرية فقط.

وقبيل عام 2026، أرى أنّ موسكو أمام مفترق تاريخي: فإما أن تُثبت قدرتها على التأقلم مع أنظمة جديدة تطلب احترام السيادة والدعم التنموي، أو تخسر ما راكمته من نفوذ خلال عقد من الزمن.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى