مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: شخصيات في حياتي (٣) توكل كرمان… زهرةُ اليمن…وصوتُ الحرية

كل ثورة زهرة، ولكل زمن أيقونة، غير أن قليلًا ما تتجسد الزهرة والأيقونة في رمزاً واحدا.

خرجت توكل كرمان من أسرة يمنية دستورية الاهتمام، بين ركام الاستبداد، لتقول للعالم إن الحرية لا جنس لها، وإن الشجاعة لا تُقاس بالشوارب والعضلات، بل بنقاء الضمير، وصلابة الروح.

ترتدي عباءتها اليمنية المميزة.

التي تذكرني برمزية نظارة غاندي، لكن خلف تلك الرمزية، وهجًا غير عادي:

تتحدث كأنها تحمل قلوب الملايين، وتبتسم بثقة في أحلك اللحظات

كأنها تنثر الطمأنينة وسط عاصفة.

شخصية استثنائية، تمزج بين الحضور الإنساني العميق والموقف السياسي الصلب.

رغم فارق السن لصالحي بيننا إلا أني استفدت كثيرًا من عدم اكتراث توكل بحملات الذباب الالكتروني التي تهب عليها كرياح الخماسين الموسمية أربعة عشر عامًا مضت منذ اللقاء الأول صارت خلالها توكل بالنسبة لي ولأسرتي، أختًا وصوتًا ومرأةً نادرة، تجمع بين رهافة الحس، وصدق الموقف.

في كل مرة أراها أجد فيها دهشة الطفلة، ويقين المناضلة، يقينًا لا يهتز بأن الحرية قدرٌ محتوم.

في ٢٠١١ لم تكن مجرّد امرأة شابة تهتف في الميادين، وتعتقل وتعود، بل قصيدة تمشي على قدمين.

كل كلمة عندها سهم، وكل دمعة عهد.

حضورها جعل الثورة لها ملامح، وعنوان، وللحرية وجها يبتسم في وجه القمع.

كثيرًا ما أقول لها ولزوجها الصديق العزيز محمد النهمي وأكرر دومًا :

لو شكلت توكل حزبًا سياسيًا، لاستفاد من شخصيتها الدولية المرموقة، ومن صلاتها المحلية العميقة، ومن خبرتها المتنوعة.

فهي تملك ما لا يملكه كثير من الرموز: شرعية الميدان، وشرعية التضحية، وشرعية الاعتراف العالمي.

هي مشروع حزب قبل أن تكون مشروع ثورة.

مشكلتها الوحيدة في تقديري هي أنها لا تعرف الاستقرار في مكان واحد؛ فهي دائمة السفر، عابرة للخرائط، متنقلة بين العواصم. لكنها حين تستدعيها الشدائد، تجدها أول الحاضرين.

سيدة المواقف الصعبة، المبادِرة، القوية، الإنسانة التي لا تغيب في المحن، ولا تتأخر عن ساحات الوجع.

جائزة نوبل للسلام التي نالتها عام ٢٠١١ لم تكن كأقرانها نهاية الطريق، بل بدايته الجديدة. لقد جعلت منها تكليفًا لا تشريفًا، فحوّلت التكريم إلى مسؤولية، والضوء العالمي إلى منبر دائم للحرية.

حين أسست منظمة صحفيات بلا قيود عام ٢٠٠٥، فتحت نافذةً جديدةً للنساء في الإعلام اليمني.

وحين أنشأت قناة بلقيس، لم يكن الاسم اختيارًا اعتباطيًا، بل استدعاءً لتاريخ اليمن العريق، حيث بلقيس ملكة سبأ، وحيث الحكمة تتجدد في صورة إعلام حرّ يواجه الاستبداد.

العلاقة بين توكل وبلقيس ليست مجرد استعارة.

فكما بنت الملكة عرشًا من نور، تبني توكل منابرًا من ضوء الحرية.

وكما حكمت سبأ بالحكمة، تحاول توكل أن تعيد لليمنيين مرآةً صافية لأنفسهم عبر صوتها وشاشتها ومؤسستها.

مؤسستها ووقفياتها الخيرية لم تكن فرعًا ثانويًا، بل رئة أخرى لحياتها: تزرع، تُعلّم، تُداوي، وتُغيث.

إنها امتداد لضميرها الثوري، الذي لا يرى في السياسة سوى وسيلة لخدمة الإنسان.

في المجلس العربي، جمعتنا مئات الساعات الطويلة من النقاش.

كنتُ اختلف معها احيانا، ونتفق في معظم الاحيان، فلا زلت أرى فيها الجسر الذي يربط بين عذوبة عماد الدائمي الصديق الحبيب، ومحمد المنصف المرزوقي الأب والرمز والقيمة.

أضافت توكل للمجلس روحًا متوهجة، وحيويةً تجعل كل لقاء تجربة مختلفة.

ما يدهشني فيها أنها رغم حضورها العالمي لا تفقد شغفها الأول. تبقى كما هي منذ لحظة انطلقت في شوارع صنعاء: ابتسامة وسط الركام، وصوت عالٍ في مواجهة الرصاص، وإيمان بأن غدًا سيكون أفضل مهما اشتد الليل.

توكل كرمان ليست استثناءً لأنها امرأة شابه فقط، بل لأنها جعلت البطولة ممكنة بلا سلاح، وصنعت مدرسة للشجاعة، ومن اليمن المحاصر وطنًا يليق بتاريخه العريق.

أتمنى لها أن تبقى زهرة لا تذبل، وإنسانة لا تفقد حماسها وانسانيتها. أتمنى أن يحفظها الله، وأن يمدها دائمًا بطاقة المبادرة التي لا تخبو، وأن تبقى صوتًا يوقظ الضمائر في كل مكان.

وغدًا، وبعد أن كتبت عن الصديق والأب والأخت،

سأفتح الصفحات على الجد والاب الروحي، والجذر الليبرالي المصري، على رجلٍ أعاد للوفد بهاءه، وللحركة الوطنية حضورها: فؤاد باشا سراج الدين.

أكتب عنهم ليبقى أثرهم، وأكتب عن نفسي لأبقى وفيًّا لهم.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى