مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: ورقة من مذكـراتي..حين يفقد الأدب تسقط الأخلاق..فتنهار الحياة


علمتني الحياه ان هناك علاقة لا تنفصل ابدا ما بين الأدب والأخلاق والحياة، فهناك خيط رفيع خيط لا يري للبعض، لكنه أصلب من أن يُقطع بسهولة.ومن لا يراه قد يشنق به نفسه فيفقد حياته.

الأدب ليس مسحوقا للزينة،ولا غشاء في الكلام هو لياقة في التعامل، هو ظل الأخلاق على الأرض، وملامحها في وجوه الناس، ورحمتها في القلوب. فحين يغيب الأدب يغيب معه الرفق، وتذبل الرحمة، ويبهت لون القيم، ويصبح الاحترام عملة نادرة لا تُتداول إلا في الذكريات.

الأدب هو الضمانة الأولى للرحمة،للحب، فمن لا يُحسن مخاطبة الآخر، ولا يعرف حدود صوته أو لسانه، كيف له أن يُدرك أن كل كلمة متجاوزه جارحة ، وقد تكون طعنة، وكل صوت مرتفع قد يكون شرارة، تبدأ في إشعال النار في ثوبه قبل أن تمتد لتحرق كل ما حوله.

ومن يحترم ذاته، يحترم الآخرين بالضرورة، فاحترام النفس والآخر ، ليس كبرياءً فارغًا، بل هو وعي بأن الكلمة مرآة، وأن النبرة موقف، وأن كل فعل يُقاس بميزان العقل قبل أن يُقاس بميزان الضمير.

الأسرة هي الميدان الأول للأدب والأخلاق. في دفء البيت تُزرع بذور الرحمة، ومنها يخرج الإنسان إلى المجتمع. والأسرة ليست إلا مجموع أفرادها، والمجتمع ليس إلا حاصل جمع أسر صغيرة متجاورة. فإذا غاب الأدب داخل البيت، خرج المجتمع بأكمله أعرج الروح، أجوف القلب.

الرحمة تبدأ من كلمة حانية بين زوجين، من صوت منخفض بين أب وابنه، من لمسة حنان بين أم وبنتها، ثم تمتد إلى الشارع، والمدرسة، والعمل، والوطن. وإذا غابت هذه الشرارة الصغيرة من الرحمة، عمَّ الصقيع في كل مكان.

الأخطر من غياب الأدب أن يراهن البعض على أدب الآخرين. أن يظن أن صمتهم ضعف، أو حلمهم استسلام، أو تجاوزهم حق مكتسب يتيح له أن يخطئ ويكرر. كل رصيد مهما عَظُم ينفذ بالاستنزاف، وكل صبر مهما طال ينكسر عند حدّه. كما قيل: “للصبر حدود”، وأنا أقول: للرهان على أخلاق الآخرين أيضًا حدود.

النزيف الأخلاقي يبدأ بقطرة: كلمة صغيرة تجرح، تصرّف عابر يُهين، إهمال يجرح قلبًا صامتًا. لكنه إن استمر، قد يتحول إلى سيلٍ يجرف كل شيء، وقد ينتهي عند آخر قطرة تُسقط إنسانًا أو علاقة أو مجتمعًا بأسره.

الأدب ليس مظهرًا اجتماعيًا، بل جوهر إنساني. إنه الطريقة التي نُثبت بها أننا بشر، لا مجرد كائنات تسعى خلف مصالحها. وحين نُفقد هذه اللغة الخفية التي تُترجمها الرحمة، نفقد معها إنسانيتنا.

المجتمعات تنهض حين ينهض فيها الأدب. تنهض حين يتذكر الناس أن الاحترام للآخر لا ينفصل عن الاحترام للذات. تنهض حين يُدرك كل فرد أن كلمة رقيقة قد تقي قلبًا من الانكسار، وأن كلمة فظة قد تهدم بيتًا أو علاقة أو وطنًا.

الأخلاق بلا أدب جسد بلا روح. والرحمة بلا أدب نغمة بلا لحن. فإذا انهار الأدب، تساقطت الأخلاق كأوراق يابسة، وذبلت الرحمة في القلوب، ومعها ينهار الإنسان نفسه، ويهوي المجتمع كله في فراغٍ لا قاع له.

ليست المأساة أن نخطئ، فكلنا نخطئ. المأساة أن نتعود على الخطأ، وأن نُرهق من حولنا بالرهان على قدرتهم على التجاوز. كل تسامح بلا حد يتحول إلى نزيف، وكل نزيف بلا علاج ينتهي بالموت.

لذلك، لا ترفع صوتك، ولا تُسرف في جرح الآخرين. فصوتك أول ما يحرق هو ثوبك، وجُرحك أول ما يفتك هو ذاتك. وإن كان لا بد من رهان، فارهن على نفسك أن تبقى مؤدبًا رحيمًا، لأنك بهذا وحده تحفظ كرامتك، وتحمي بيتك، وتبني مجتمعك.

في النهاية، حين ينهار الأدب، تنهار الأخلاق، ومعها تنهار الحياة. فلا تبنوا على وهمٍ أن الرحمة خالدة بلا أدب، أو أن الأخلاق قائمة بلا احترام. فكل شيء يبدأ من كلمة مؤدبة، تنقذ حياة، وتُبقي الأمل حيًا في قلب الإنسان.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى