
في حياتي، رجال كانوا شمسًا لا تغيب، أساتذة لم يتركوني عند حدود الكلمة بل حملوني إلى آفاقها. ومن هؤلاء العملاق مصطفى أمين، الذي كان عندي المعلم الأول في الصحافة والإنسانية والليبرالية.
بدأت قصتي معه وأنا طالب في الثانوية، رئيسًا لاتحاد طلاب الجمهورية. كنت أحلم بالصحافة، وأتوق للقاء الكبار. تحقق الحلم أكثر من مرة مع مصطفى أمين، وكان كل لقاء معه قبلة حياة لمسيرة ممتدة.
في عام 1979، في أول عيد رسمي للفن والثقافة، كان الرئيس الراحل أنور السادات غاضبًا من مصطفى أمين، رافضًا تكريمه. لكن الوزير الليبرالي الشاب منصور حسن لم يتمكن من تجاهله، فذهب إلى منزله في الزمالك، قريبًا من بيته هو أيضًا، ودون علم السادات، ليستشيره في أسماء المكرّمين.
وهناك، رشّحني مصطفى أمين، وأنا ما زلت طالبًا في الثانوية، لأكون ضمن المكرّمين عن دوري في الصحافة الطلابية والشبابية. تسلّمت شهادة التكريم من السادات، لكنها كانت في وجداني وسامًا أبديًا من مصطفى أمين.
وحين اعتُقلت في مارس 1982 وأنا طالب جامعي، كتب عني في مقاله الشهير “فكرة”، مدافعًا عني وعن حقي في الحرية. كان يدافع عن قيمة الحرية نفسها، لا عن فردٍ بعينه.
مقالاته الإنسانية كانت مدرستي الأولى. كان يكتب عن بائع في الشارع، أو عامل في المصنع، أو طفل يتيم يوزّع الفرح بلا مقابل. كان يرى في الوجوه المجهولة عظمة الوطن، وفي التفاصيل الصغيرة معنى الإنسانية.
في سجني الأخير، قرأت ثلاثيته الشهيرة: “سنة أولى سجن” و”سنة ثانية سجن” و”سنة ثالثة سجن”. كنت أقرأه كأنني أقرأ نفسي. الوحدة ذاتها، الجدران نفسها، القهر ذاته، لكن الأمل ذاته أيضًا.
وجدت نفسي في كلماته، في وصفه للوحدة، في حديثه عن لحظات الضعف ولحظات الصلابة. كان صوته في الكتب عزاءً ورفيقًا، يمدني بالصبر والأمل.
كان يؤمن أن الصحافة مرآة للإنسان، لا مرآة للسلطان. علّمني أن الصحافة بلا حرية كالجسد بلا روح، وأن الكلمة بلا صدق ريحٌ عابرة.
لم يكن مجرد صحفي كبير، بل كان أبًا حقيقيًا لجيل كامل. كل من قرأه شعر أنه أقرب إلى نفسه وأقرب إلى الناس. كان يكتب كأن قلبه قلم، وكأن قلمه قلب.
ولا يمكن أن يُذكر مصطفى أمين دون أن يُذكر توأم روحه علي أمين. كانا جناحين لطائر واحد، لا يستقيم أحدهما دون الآخر. توأمان جسّدا مدرسة كاملة في الصحافة والفكر.
لم يكن مصطفى أمين أستاذي وحدي، بل كان أيضًا أستاذًا لأستاذي التالي: مصطفى شردي، فارس صحافة المعارضة. علّمه فألهمه، ثم ورثتُ أنا عن شردي ما ورثه هو عن أمين: مدرسة الصحافة، والشجاعة، والوطنية.
إنني مدين لمصطفى أمين بقدرتي على أن أكتب بحرية، وأن أؤمن بالاختلاف، وأن أرى في الصحافة شرفًا لا وظيفة. رحم الله مصطفى أمين، ورحم علي أمين، ورحم جيلًا صاغ وجدان الأمة بالكلمة.
…وفي الحلقة القادمة، أكتب عن تلميذه مصطفى شردي، الذي رحل في الذكرى الخامسة والثلاثين لرحيله. فارس صحافة المعارضة، وأبٌ حنون، وصوتٌ صادق حمل شعلة الحرية في وجه الطغيان.