حوارات وتصريحات

الدكتور يزيد صايغ يناقش: هل تنهار جمهورية السيسي؟ قراءة معمّقة في تاريخ الحكم العسكري بمصر



في حلقة جديدة من بودكاست حواري عبر موقع عربي 21، قدّم الباحث والمفكر السياسي الدكتور يزيد صايغ (كبير الباحثين في مركز كارنيغي للشرق الأوسط) قراءة معمّقة لمسار الحكم العسكري في مصر منذ 1952 حتى اليوم، وملامح ما يصفه بـ«الجمهورية الثانية» في عهد عبد الفتاح السيسي، موضحًا أن احتكار القرار العام –أياً كان صاحبه: مؤسسة عسكرية أو حزب واحد– يقيّد قدرة المجتمع على الاختيار والنقاش والمساءلة، ويؤدي في حالات كثيرة إلى نتائج مكلفة وغير شفافة.
وأشار صايغ إلى أن المؤسسة العسكرية نسجت علاقة مصلحية بالاقتصاد المصري تعزز نفوذها المؤسسي، مع تآكل العقد الاجتماعي القديم وتزايد كلفة الدَّين وخدمة فوائده، مؤكدًا أن «الجمهورية الجديدة» متماسكة «من فوق» لكنها تفتقر لحاضنة اجتماعية واسعة.

«جمهورية الضباط»… نظام سيطرة يُفرّغ المؤسسات

يقول صايغ إن ما سماه عام 2012 بـ«جمهورية الضباط» في مصر لا تنتج دولة فعّالة بقدر ما تنتج نظام سيطرة يملأ أجهزة الإدارة المدنية بكبار الضباط المتقاعدين، من المحافظات والهيئات الاقتصادية إلى الشركات العامة. الفكرة هنا –بحسب صايغ– ليست أفضليّة مهنية، بل نمط ولاءٍ مؤسسي يضمن استمرار النفوذ بعد التقاعد عبر مواقع مدنية ذات رواتب ومزايا أكبر.

تاريخ شراء الولاءات… من عامر إلى طنطاوي

يربط صايغ الظاهرة بجذور تاريخية:

  • في الستينيات، سمح المشير عبد الحكيم عامر لكبار الضباط بممارسة أنشطة تجارية موازية، ضمن مناخ «شراء الولاء عبر الفرص الاقتصادية».
  • لاحقًا، ومع أنور السادات (منذ 1979) توسّع النشاط الاقتصادي العسكري كتعويض مقابل السلام.
  • ثم عزّز المشير محمد حسين طنطاوي (منذ 1991) سياسة تدوير كبار الضباط إلى مواقع مدنية بعد الخدمة، كـ«بوليصة تأمين للولاء».

العاصمة الإدارية والديون… «قرار فردي بلا حوار عام»

يطرح صايغ سؤال الجدوى حول العاصمة الإدارية الجديدة: إنفاقٌ تقديري لا يقل عن 45 مليار دولار في مراحله الأولى، بقرار «شبه فردي» مع غياب المشاورات المجتمعية الواسعة، فيما لا تمتلك مصر فوائض مالية كافية، ما أدى إلى قفزة في الدَّين العام وخدمة فوائده لتصل –بحسب صايغ– في بعض الأعوام إلى أكثر من 50% من الموازنة.
ويضيف أن الأولوية الاستثمارية اتجهت إلى شبكات الطرق بدلًا من النقل النهري والسكك الحديدية الأقل كلفة كربونيًا وماليًا، وأن مشروعات كثيفة استهلاك المياه تتعارض مع وصول نصيب الفرد من المياه إلى حدّ الفقر المائي وفق معايير الأمم المتحدة.

غياب الشفافية والرقابة على الأنشطة المدنية للعسكر

يشدد صايغ على أن الشركات والمشروعات المدنية التابعة للمؤسسة العسكرية لا تُخضع بياناتها للرقابة والشفافية العامة أسوةً بباقي الكيانات المملوكة للدولة: الضرائب، الديون، التدفقات، والتقارير المالية. ومع انتشار الإسناد بالأمر المباشر تتفاقم فرص المحاباة والريع على حساب الكفاءة والمنافسة.

العقد الاجتماعي… من «الرعاية» إلى «الترويض»

يرى صايغ أن العقد الاجتماعي الذي تأسس مع عبد الناصر (رعاية تعليمية وصحية، وظائف حكومية، دعم أساسي) تآكل خلال العقد الأخير بحجة العجز المالي، مع تحوّل خطاب السلطة نحو الفقراء من الرعاية إلى اللوم والضبط: «انتهى عهد كل شيء ببلاش».
النتيجة –بحسب صايغ– تصاعد الفقر وانكماش شرائح واسعة من الطبقة الوسطى نحو خط الفقر مع تراجع القدرة الشرائية وتخفيض قيمة الجنيه، ما يعني إضعاف الحاضنة الاجتماعية التي استفادت لعقود من القطاع العام.

مركزية الرئاسة والمادة 200… «تقنين» تدخل الجيش

يعتبر صايغ أن مركزة السلطات في يد الرئيس اليوم تتجاوز ما كان قائمًا سابقًا، مدعومةً بتحالف وثيق مع الجيش. ويشير إلى المادة 200 (تعديل 2019) التي تمنح الجيش دور «صيانة الطابع الدستوري والديمقراطي للدولة» دون اشتراط الرجوع لجهة مدنية (برلمان/محكمة)، ما يضعه فوق الجميع عند لحظة التدخل، ويُقرأ كتعلّم من تجربة 2013 لتفادي تصنيف خارجي صريح بالانقلاب وتقويض المساعدات.

هل تُثمر «المشروعات القومية» لاحقًا؟

لا ينفي صايغ أن البنية التحتية من طرق ومناطق صناعية حول قناة السويس «منطقية ومهمة»، لكنه يربط استدامتها بـحوار عام وشفافية واختيارات بديلة تراعي الكُلفة البيئية والمائية والمالية. ويُذكّر بأن القطار السريع يربط بالأساس مدنًا جديدة نخبوية، بينما يحتاج الاقتصاد إلى أولويات نقل عام وشحن أرخص وأوسع أثرًا.

مستقبل «الجمهورية الثانية»: تماسك فوقي وحاضنة ضعيفة

يلخّص صايغ المشهد بأن النظام الحالي متجانس ومتماسك «من فوق»؛ إذ نجح في تحييد صراعات مراكز القوى التي ميّزت عهودًا سابقة. لكن في المقابل، تتبدد الحواضن الاجتماعية التقليدية:

  • الفلاحون والعمال أكثر فقرًا، والريف أكثر هشاشة.
  • الموظفون العموميون تقلصت مكاسبهم وفرص توظيفهم.
  • القطاع الخاص مشوّه؛ إذ أن 99% من مؤسساته شركات صغيرة أو متناهية الصغر، مع تبعية عالية لعقود الدولة.
    هكذا، يرى صايغ أن النظام قويّ من أعلى وضعيف من أسفل؛ ما يمدّ في عمره مؤسسيًا، لكنه يترك سؤال الجدوى والشرعية الاجتماعية مفتوحًا.

لماذا يُعدّ الحكم العسكري إشكاليًا؟

يعود صايغ إلى المبدأ: احتكار السلطة وصنع السياسات العامة –سواء بأيدي العسكر أو حزب واحد– يقلّص التعددية والخبرة المتنوعة في اتخاذ القرار، وقد يُنتج كوارث أو كلفة أعلى بلا مساءلة. الإشكال ليس «في الأشخاص فقط» ولا «في المؤسسة وحدها»، بل في بُنية الاحتكار نفسها وما تخلقه من اقتصاد سياسي ريعي يُضعف التنافسية والرفاه العام.

خلاصة: يقدّم يزيد صايغ إطارًا يربط الاقتصاد بالسياسة: توسّع النفوذ الاقتصادي للعسكر، مركزية القرار، تآكل العقد الاجتماعي، وارتفاع كلفة الدَّين؛ مقابل تماسك سلطوي من أعلى وضعف قاعدة اجتماعية من أسفل. وبينما لا ينفي جدوى بعض المشروعات، يضع الحوار العام والشفافية والخيارات البديلة كاختبارٍ حاسمٍ لأي «جمهورية جديدة» تسعى لاستدامة التنمية والشرعية معًا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى