
في واحدة من أعرق الحواضر الثقافية والدينية في روسيا، تبرز الإدارة الدينية لمسلمي سانت بطرسبرغ والمنطقة الشمالية الغربية كلاعب رئيسي في المشهد الديني والاجتماعي، ليس فقط على مستوى المدينة، بل ضمن النطاق الفيدرالي الواسع لروسيا. هذه المؤسسة، التي تتخذ من مدينة سانت بطرسبرغ مقرًا لها، تمثل المرجعية الإسلامية الرسمية للمسلمين في هذه المنطقة الحساسة جيوسياسيًا وثقافيًا، وتجمع بين الأصالة الدينية والديناميكية الاجتماعية في آنٍ معًا.
مؤسسة تجمع بين العبادة، التعليم، والحوار
تتولى الإدارة الدينية – المعروفة اختصارًا بـ DUM-SPB – مهمة تنظيم الحياة الدينية للمسلمين، وتدير شبكة واسعة من المساجد والمراكز التعليمية والدعوية. كما تقوم بتأطير الشعائر الإسلامية، وتنظيم المناسبات الدينية الكبرى، مثل عيدي الفطر والأضحى، وتسيير برامج تعليمية للأطفال والشباب، فضلًا عن تنظيم مسابقات لتلاوة القرآن الكريم، والدورات الشرعية.
لكن دورها لا يقتصر على البُعد الديني البحت؛ إذ تنشط المؤسسة أيضًا في المجال الثقافي والتربوي، وتحرص على أن تكون فاعلة في المشهد المدني من خلال مبادرات اجتماعية ومشاريع شبابية وتعليمية، تُعنى ببناء جيل متوازن فكريًا وسلوكيًا، ينتمي إلى ثقافته الإسلامية، ويتفاعل مع محيطه الوطني الروسي.
بين التسامح والحوار: منابر للتلاقي لا التنافر
من أبرز ما يميّز هذه الإدارة أنها تبنّت منذ سنوات نهجًا يقوم على التسامح الديني وتعزيز التعددية الثقافية، وقد أطلقت لذلك عددًا من البرامج التي حملت عنوان “التسامح”، امتدت على مراحل مختلفة مثل (2006–2010 و2011–2015)، وكانت تهدف إلى خلق بيئة حوارية بنّاءة بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، في مجتمع متعدد الأعراق والانتماءات.
وهو ما جعلها تحظى باحترام واسع من قبل السلطات المحلية، والمجتمع المدني، وحتى المؤسسات الدولية، باعتبارها نموذجًا للاعتدال والانفتاح.
منتديات دولية تحت مظلة إسلامية – روسية
ضمن إطار انفتاحها على العالم، تنظم الإدارة الدينية لمسلمي سانت بطرسبرغ المنتدى الديني الدولي بشكل دوري، والذي تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى منصة حوار عالمية تجمع بين رجال الدين والمفكرين والسياسيين من مختلف القارات.
هذا المنتدى، الذي عُقدت نسخته الثالثة في سبتمبر 2025، تحت عنوان “القيم الدينية والأخلاقية هي أساس التنمية في العالم المتغير”، استقطب مشاركات رفيعة من نخبة العلماء والخبراء، وكان مناسبة لمناقشة موضوعات مثل مكافحة التطرف، الشباب والدين، والحوار بين الأديان، وكل ذلك انطلاقًا من رؤية مؤسسية تعتبر أن القيم الأخلاقية المشتركة تمثل أساسًا لأي استقرار حقيقي في عالم مضطرب.
ولعلّ أهمية المنتدى تكمن في كونه يُنظم من داخل روسيا، ولكنه يتناول قضايا ذات بعد عالمي، من منظور ديني عميق ومنفتح في آنٍ واحد، ما يعكس قدرة هذه المؤسسة على لعب دور يتجاوز حدود الجغرافيا الروسية.
مفتي بطرسبرغ: قيادة تجمع بين الحكمة والاعتدال
يُشرف على الإدارة الدينية المفتي رافيلخازرات بانشاييف، الذي يتولى هذا المنصب منذ عام 2013، ويُعتبر من أبرز الشخصيات الدينية الإسلامية في روسيا. عُرف بانشاييف بخطابه المتزن ومواقفه المعتدلة، وسعيه المتواصل إلى تعزيز حضور المسلمين في الحياة العامة الروسية، مع الحفاظ على ثوابت العقيدة والانتماء الثقافي.
وقد ساهم المفتي في رفع مكانة المؤسسة، سواء من خلال علاقاتها المتينة مع السلطات الروسية، أو من خلال انفتاحها على المؤسسات الدينية الأخرى، الإسلامية والمسيحية واليهودية، داخل روسيا وخارجها.
مؤسسة مرجعية… في زمن الحاجة إلى التوازن
في ظل التحديات التي تواجه العالم اليوم، من تصاعد خطاب الكراهية إلى تنامي التيارات المتطرفة، تبرز أهمية المؤسسات الدينية التي تمتلك مشروعًا حضاريًا جامعًا، وتستند إلى رؤية دينية رحبة ومنفتحة. وهنا، تبرز الإدارة الدينية لمسلمي سانت بطرسبرغ كمثال حيّ لمؤسسة دينية قادرة على مواكبة العصر دون أن تتخلى عن هويتها.
ومن خلال فعالياتها المتعددة، وخاصة المنتديات والحوارات بين الأديان، تؤكد هذه المؤسسة أن الإسلام في روسيا ليس مجرد طقس ديني، بل قوة ناعمة تسهم في بناء مجتمع متماسك، متسامح، ومتعدد .