
“الدلالات الاستراتيجية وفرص الاستثمار السياسي”
أولاً: ما الذي حدث؟
أثناء كلمة بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (26 سبتمبر/أيلول 2025) غادرت وفود عشرات الدول القاعة بشكل جماعي، من بينها دول أوروبية وعربية وإسلامية.
جاء الانسحاب احتجاجًا على خطابه التصعيدي الذي أعلن فيه استمرار الحرب في غزة ورفضه أي حديث عن دولة فلسطينية، وهاجم فيه الدول التي اعترفت مؤخرًا بفلسطين.
الحدث لم يكن مجرد تعبير فردي، بل سلوك مؤسسي منظم يعكس تبدلاً في المزاج الدولي.
ثانياً: الدلالات المباشرة.
- 1- عزلة سياسية متنامية لإسرائيل: للمرة الأولى يظهر هذا الحجم من الاحتجاج داخل قاعة رسمية، ما يشير إلى أن السردية الإسرائيلية لم تعد محصنة.
- 2- تصدع داخل الغرب نفسه: بعض الدول المنسحبة هي حليفة تقليدية لإسرائيل، لكنها لم تعد قادرة على تغطية سياساتها علنًا.
- 3- رسالة ردع سياسية: الانسحاب يضع سقفًا دوليًا على خطاب “سنكمل المهمة” ويكشف أن الاستمرار في الإبادة لا يمر بلا كلفة.
ثالثاً: العلاقة بفكرة الدولة الفلسطينية.
هذا المشهد هو تتويج لمسار الاعتراف: من بيانات وتصريحات → إلى اعترافات رسمية → إلى احتجاج دبلوماسي علني داخل أرفع محفل أممي.
الدولة الفلسطينية لم تعد فكرة رمزية، بل باتت مطلبًا مؤسسيًا يريد العالم من خلاله أن يجد بديلاً لسياسة الأرض المحروقة الإسرائيلية.
الانسحاب يعزز السردية المضادة: إسرائيل = دولة احتلال معزولة، فلسطين = مشروع دولة يحظى بتأييد عالمي متنامٍ.
رابعاً: إعادة صياغة السردية والصورة.
لسنوات روّجت إسرائيل سردية “الدفاع عن النفس”.. الآن بات بالإمكان إعادة بناء السردية عبر:
- إبراز صورة الانسحاب كتجسيد للعزلة الأخلاقية.
- ربطها بمشاهد الضحايا والدمار.
- جعل العالم يرى أن الاحتلال هو الاستثناء المعزول، لا المقاومة.
- هذه الصورة إذا استُثمرت بذكاء ستتغلب على السردية التقليدية الإسرائيلية.
خامساً: أثر المسار القانوني الدولي.
استمرار تقديم الشكاوى إلى محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية أصبح ضرورة، لأن الانسحاب يمنح شرعية سياسية لهذا المسار.
الأثر المتوقع:
- 1- زيادة الكلفة السياسية والقانونية على الاحتلال.
- 2- فتح ملفات عقوبات (حظر سفر، تجميد أصول) ضد قادة محددين.
- 3- ترسيخ التوثيق القانوني لجرائم الحرب بما يصعب محوها أو نسيانها.
سادساً: هل يتراجع نتنياهو؟
قصير المدى: لن يتراجع، بل قد يصعّد ليظهر لجمهوره أنه ثابت.
متوسط المدى: مع اتساع العزلة والضغوط الاقتصادية/القانونية، ستتقلص مساحة حركته تدريجيًا.
بعيد المدى: الاحتلال سيجد نفسه أمام خيارين: التنازل التدريجي (تكتيكيًا) أو مواجهة عزلة خانقة شبيهة بما واجه نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
سابعاً: فرص الاستثمار السياسي.
1) المحور الإعلامي.
تحويل مشهد الانسحاب إلى رمز عالمي عبر فيديوهات قصيرة، إنفوغرافيك، وموجزات صحفية توزع على الإعلام والبرلمانات.- 2) المحور الدبلوماسي.
بناء تكتل من الدول التي اعترفت بفلسطين لدفع خطوات متزامنة: ترقية التمثيل، فرض قيود تجارية على منتجات المستوطنات، دعم قرارات مساءلة. - 3) المحور القانوني.
دعم الشكاوى أمام المحاكم الدولية، وتجميع ملفات موثقة تُستخدم كأدوات ضغط دائمة. - 4) المحور الشعبي/المدني.
تفعيل النقابات والجامعات والبلديات لقرارات مقاطعة وسحب استثمارات، بما يحول التضامن الشعبي إلى خطوات مؤسسية. - 5) المحور التنظيمي.
إنشاء خلية قيادة صغيرة (6–8 أشخاص) تنسق الجهود الإعلامية والدبلوماسية والقانونية لضمان الاستمرارية والإنجاز.
ثامناً: الأثر على الشعوب والرأي العام.
مشهد الانسحاب يعزز شرعية التحركات الشعبية، ويمنحها غطاءً مؤسساتياً يمنع وصمها بالتطرف.
يرفع مستوى القابلية للتعبئة في الشارع الغربي والعربي، ويفتح الباب لموجات جديدة من المقاطعة والاحتجاج.
تاسعاً: الخلاصة الاستراتيجية.
الانسحاب الجماعي ليس مجرد حدث عابر، بل مؤشر على بداية تبلور عزلة سياسية وقانونية ضد الاحتلال.
إذا استُثمر جيداً، يمكن أن يصبح منعطفًا في مسار طويل نحو: تعزيز شرعية الدولة الفلسطينية. رفع كلفة الاحتلال دبلوماسيًا واقتصاديًا. تسريع لحظة التحول التاريخي وبداية التراجع التدريجي للمشروع الصهيوني.
الرسالة النهائية:
الحدث في الأمم المتحدة قد لا يوقف آلة القتل فورًا، لكنه بداية لتحويل العزلة الأخلاقية إلى عزلة سياسية وقانونية كاملة. هذه هي البذور الأولى لبداية تراجع الاحتلال، شرط أن تُستثمر بوعي استراتيجي منظم.
د. محمد عماد صابر
28-09-2025