
لا يشير الحديث الدارج عن علاقة المال بالبرلمان في مصر إلى المال القانوني أو المشروع، إذ يعتبر حديث دور المال في البرلمان المصري، حديث يشير إلى الفساد، وكل ما هو غير مشروع، فهو موضوع مرتبط بعدم النزاهة وعدم الشفافية، رغم أن الحديث العلمي عن المال في البرلمانات المصرية هو أمر طبيعي، لأن الانتخابات وإدارة البرلمانات تحتاج للإنفاق، وإلى المال بكثرة، وهذا المال منه النزيه والنقي ومنه الفاسد، لأنه مرتبط بانتخابات البرلمان وإدارة أعماله، وهو أمر يحتمل كل ما هو جيد، وغير جيد في أوجه صرف المال.
لكن وكما ذكر آنفا، أن حديث المال والبرلمان في مصر عادة، ما يشير إلى مقصد التربح والرشى والفساد وتضارب المصالح وخرق سقوف الدعاية والحصول على مقابل حضور الجلسات دون حضور فعلي، واستغلال العضوية في أعمال تربح غير مشروعة.
إنفاق المال على الانتخابات والبرلمان بغرض الفساد والإجرام.
لا شك، أن هناك أغراضا متعددة مصريا لعلاقة المال وفق هذا المفهوم الأخير بالبرلمان، إذ قد يكون الغرض هو الفوز بالعضوية بالتحايل والتزوير أو الرشاوى، وقد يكون الغرض هو الإمعان في إحداث فرق بين المرشحين وفق قدراتهم المالية، ما يجعل هناك فريق أو حزب أو ائتلاف أو مرشح، ينافس فريق أو ائتلاف أو مرشح آخر من خلال خرق سقف الدعاية، وقد يكون الغرض هو استغلال الحصانة البرلمانية؛ لارتكاب أعمال تتسم بالفظاعة واستغلال النفوذ، من خلال إخافة الآخرين عند الدخول في مناقصات ومزايدات أو إجراء مخالصات جمركية أو الدخول في أعمال احتكار أو تهرب ضريبي.. إلخ. كل ذلك، ويزيد يحدث دوما من قبل أعضاء في البرلمان مردوا على الفساد وعلى الإجرام، وهو أمر أصبح متبع حديثا منذ التعددية الحزبية الثالثة في 11نوفمبر 1976، والتي ترافقت مع مناخ الانفتاح الاقتصادي، ثم الخصخصة، وتزاوج المال والأعمال بالسلطة، وكلها أمور لم تكن قائمة إبان الحقبة الناصرية.
نواب خانوا الأمانة ونكثوا العهد مع الناخبين
وفي مصر أيضا شاهدنا، ولا نزال نشاهد مظاهر يَشيب لها الولدان، وفضائح لا يُمكن أن تُصدق من نواب سبق أن عاهدوا ناخبيهم على الإخلاص والنزاهة وطهارة اليد، وإذ بهم يكتشفون، أنهم لم يكونوا أهلا للثقة، وأن من منحوهم أصواتهم، نكثوا عهودهم وخانوا وتملصوا من التزاماتهم، وراحوا بالمقابل، يركضون خلف جمع المال وشهوة أكل الحرام واستباحة كل ما هو مال عام أو مال خاص، ملتحفين بلحاف الحصانة البرلمانية المُقننة في الدستور والقوانين، والتي وضعت بالأساس لقيام النائب بمهامه البرلمانية دون مؤاخذة من سلطة، يمكن أن تُنكل به، إذا قام بأداء دوره ومهامه التشريعية والرقابية. من هنا، سمعنا عن فضائح ملأت ردهات المحاكم، كنواب القروض ونواب التأشيرات ونواب العلاج على نفقة الدولة ونواب سميحة، ونواب الغش، ونواب الكيف، ونواب الأفلام الإباحية.. إلخ.
رد فعل سلبي على فساد المرشحين والنواب من الأجهزة الرسمية.
أما بالنسبة إلى رد الفعل تجاه تلك الأعمال الدنيئة والمتسمة بالخسة والإجرام الفاضح والمشهود من قبل نفر من المرشحين والنواب، فنجده رد فعل ضحلا إلى أبعد الحدود، ولا يتم التحقيق فيه، خاصة عندما لا يصل العمل الفاسد لمستوى قضايا الرأي العام، حيث راحت الإدارة الرسمية سواء خارج البرلمان أو داخله في التعتيم على الأحداث، هنا يبرز على سبيل المثال، لا الحصر خرق سقوف الدعاية الانتخابية لمئات المرشحين في كل انتخابات، رغم أن كثيرين لهم شعبية جارفة فازوا، دون أن ينفقوا نصف ما حددته قرارات اللجنة العليا للانتخابات أو الهيئة الوطنية للانتخابات كسقف للدعاية. وقد تمت كافة تلك الخروقات وسط صمت رهيب من قبل الإدارة الانتخابية، سواء كانت اللجنة العليا أو الهيئة الوطنية. وقد لوحظ طيلة عمل الكاتب في مجال البحث العلمي في الشأنين الانتخابي والبرلماني، أنه لم يكن هناك ثمة مرشح واحد، تم إيقافه لخرق سقف الدعاية الانتخابية، أو دفع رشى انتخابية على أبواب مقرات الاقتراع أو توزيع الكراتين التموينية، وكلها أفعال تنم عن وضاعة القائمين بها، وكأن بعض تلك الأفعال تباركها أجهزة رسمية، وتتم على عيونها، في استغلال واضح لعوز الناخبين وفقرهم بتوزيع الأرز والسكر والبقول عليهم.
مقابل ذلك، كنا نجد أحيانا في حالة الأفعال المتسمة بالمزيد من التبجح والانحطاط والوضاعة والأعمال القذرة، أن هناك رد فعل رسمي إزاء مرتكب الفساد المالي خاصة، والإجرام عامة من المرشحين والنواب. هنا تأتي الملاحقة القضائية في القضايا التي تم افتضاحها، وثارت حديثا للرأي العام، ومن ثم كان للبرلمان في تلك الحالات رد فعل متخذ قبل النواب المتهمين بأفعال فساد مثيرة. هنا يكون للبرلمان قدر معتبر من الخشية على سمعته، لا سيما وقد أخذت الأمور منحى علنيا، ولم يعد بالإمكان سترها أو حجبها. مثال ذلك نائب أكياس الدم الملوثة (هاني سرور) ونواب الكيف أو الإتجار في المخدرات.. إلخ. وقد قدموا جميعا إلى المحاكمة، بعد أن نفض الحزب الوطني الحاكم وقتئذ يده من هؤلاء وسارع للتبرأ منهم، خشية المساس بسمعة النظام.
في البرلمان أيضا حدث ولا حرج عن استغلال الحصانة في الفساد المالي، وقيام النواب والكتل الحزبية بالتصويت لبعضهم البعض مجاملة لأنفسهم لمنع إسقاط العضوية أو رفع الحصانة البرلمانية للتحقيق في دعاوى الفساد والإهمال المرفوعة أمام المحاكم، ومنها الشيكات دون رصيد مالي يغطيها. هنا ربما يحضر للذهن قضيتان، أحدهما خاصة بحدث، والأخرى عامة. القضية الخاصة بحدث، تتمثل في فضيحة الفساد الكبيرة التي تورط فيها صفوت الشريف أمين عام الحزب الوطني ورئيس مجلس الشورى، والذي قام فيها بتهريب نائب مجلس الشعب مالك العبارة السلام ممدوح إسماعيل التى غرق فيها 1200 شخص بالبحر الأحمر عام 2006. أما القضية العامة، فهي تتعلق بالمشكلات الخاصة بإقرارات الذمة المالية التي أصبحت مجرد حبر على ورق في قوانين غير مفعلة، خاصة في حالة النواب الذين يفارقون العضوية بانتهاء مدة المجلس، فلا نسمع عن نائب واحد، تم إيقافه لتضخم ثروته أو ملاحقته؛ بسبب “من أين لك هذا؟”، مع أن بعض النواب تضخمت ثرواتهم؛ بسبب عديد الأعمال غير المشروعة.
فجاجة بيع الأحزاب مقاعد البرلمان.
على أن كل ما سبق شيء ومسألة بيع الأحزاب لمقاعد البرلمان شيء آخر. صحيح أن تلك الظاهرة كانت موجودة إبان نظام مبارك، لكن الاتهامات بشأنها كانت مجرد إشاعات تطال شخصيات قيادية في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، معظمهم فارق الحياة. لكن اليوم الأمر تخطى مجرد الإشاعة إلى الفضيحة العلنية والمدوية، وكانت الفضيحة الأكبر فيها أن أجهزة الدولة لم تُعلن على الملأ، أنها تُحقق في تلك المعلومات التي أتت من أكثر من حزب موالي ومعارض لبيع مقاعد البرلمان، من خلال استقطاب مرشحين من رجال الأعمال، يسعون للقفز إلى عضوية البرلمان، بغرض ممارسة فساد تال وأكبر بعد اكتساب العضوية، هذا الفساد من المؤكد، أنه سيعوضهم عما خسروه من رشى، تم دفعها لقادة هذا الحزب أو ذاك، الذين هم أيضا رضوا، بأن يبيعوا ذواتهم إلى الشيطان، فظهروا أمام الشعب ككومة من الحثالة والفشلة، الذين سبق لهم أن فشلوا، في أن تكون أحزابهم ذات قدر معتبر وسط نظام حزبي، هو أصلا مهترئ ورث.
أي برلمان قادم وسط كل هذا الفساد المالي!!
كل ما سبق من أمور يجعل المرء يفكر مليا في المستقبل الغامض المحيط بالتشريع في هذا البلد، بسبب كل ما هو محيط بالبرلمان ومن قبله المرشحين. لا شك أن ظاهرة الفساد المالي للمرشحين والنواب في هذا المضمار قديمة في مصر، لكن الجديد فيها هو ضخامتها وضخامة المال بها، ومواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تفضح كل فساد، والأغرب السكوت هذه الأيام على وقائع الفساد سواء من المرشحين أو النواب.
إن الأمر جد خطير، أن يفقد المواطن الثقة في السلطة التشريعية التي تسن قوانينه، من هنا ستكون البداية الكفر بالمشاركة في الاقتراع، وربما الكفر بمشاركة الشرفاء في الترشح، ومن باب أولى عدم الثقة في الأحزاب السياسية. لذلك لا يسع المرء، إلا أن يقول بملء فيه، أن هناك ضرورة للتحقيق في كافة تلك الأمور بشكل عاجل، ونحن مقبلون على انتخابات مجلس نواب جديد.