
البدايات دائمًا تشبه النهايات، لكن تلك البداية التي حملتني إلى السجن، لم تكن تشبه أي بدايةٍ عرفتها من قبل.
كنت قد خرجت من معركةٍ انتخابية صاخبة، كنتُ فيها ثانيا في وطنٍ لا يحتمل إلا رجلاً واحدا.
وبعد أيامٍ قليلة، من حولي وصيفا حللت سجينا..
دخلت صمتي الطويل في زنزانةٍ ضيّقة، أضيق من صدر البلاد، وأرحب من ضمير النظام.
كنت في على مشارف الأربعين، حين أُغلِق الباب خلفي، وانطفأت الأضواء، وبقي في الغرفة ضوءٌ وحيد يخرج من داخلي.
في سجون طرة العتيقة، تنتهي الأصوات وتبدأ الهمسات، الإنسان لا يُقاس بموقعه في الخارج، بل بمساحته المسموح بها في الداخل.
في كل اعتقال دخلته، الليالي الأولى، لم يكن النوم يزورني، ولا النسيان.
كنت أسمع صرير الأبواب كأنها تنهيدة حديدٍ متعبة، وأرى الجدران تُصغي إليّ حين أهمس لنفسي.
كنت أحاول أن أكتب، لا لأصف ما يحدث، بل لأشرحه لنفسي بنفسي.
كنت أبحث عن معنى للهزيمة التي تشبه النصر، وللانتصار الذي جاء معه قيدٍ.
شيئًا فشيئًا، بدأت أكتشف أن الكتابة ليست وسيلة لقضاء الوقت، بل وسيلة للبقاء.
كانت الحروف تنقذني من الغرق في الصمت، وتعيدني إلى نفسي حين أكاد أفقدها.
كنت أكتب على أي شيء: على الجدران، على ظهر الأوراق القديمة، على أغلفة الطعام وعلب السجائر.
كنت أكتب كمن يزرع الورد في تربةٍ من الإسمنت.
كل جملة كنت أُنجزها كانت نَفَسًا جديدًا في رئتيّ.
كنت أستعيد عبرها قدرتي على الحلم، وعلى الغضب، وعلى الغفران. كانت الكتابة تُطهّرني من العتمة، وتُعيد ترتيب فوضاي.
في كل سطرٍ كنت أضع قطعةً من روحي، وأقول لنفسي: “لن يقدروا أن يسجنوا الحلم ما دام قادرًا على الكتابة.”
أدركت هناك أن السجن ليس جدرانًا تُقيّدك، بل لحظة صدقٍ تُصدمك.
ففي الصمت الطويل تبدأ الحكايات بالظهور، وتتعلم أن الحُرّيه.
لا تحتاج إلى بابٍ مفتوح، بل إلى وطن مفتوح.
تعلمت أن الإنسان الذي لم يجرّب القيد، لا يعرف طعم وقيمه الحرية في وطن يستحق أن يكون حراً.
ومع مرور الأيام، صار الألم أليَفًا، والليل صديقًا، والكلمة وطنًا بديلًا.
في السجن، تتعلم أن الأوطان ليست خرائط، بل لحظات صدقٍ مع نفسك.
وأن الحرية ليست في الجسد، بل في القدرة على الحلم رغم السجن.
خرجت بعد أربع سنواتٍ ونيف من الغياب، لكن شيئًا مني بقي هناك، ككتابٍ نُسي على الرف، أو شمعةٍ ما زالت تحترق في العتمة.
لم أخرج كما دخلت.
المفارقة اني خرجت أبطأ في الغضب، أعمق في الفهم، أقرب إلى الإنسان الذي كنت أبحث عنه منذ البداية.
حين أعود إلى تلك الأيام، لا أراها جرحًا، بل ميلادًا.
فهناك، في قلب العتمة، وُلدت الكلمة التي أنقذتني، وولدتُ أنا من جديد. وما زلتُ أؤمن أن السجن لا يقتل الأحرار، بل يختبر صدقهم، وأن الكلمة — إن كُتبت في الظلمة —
تضيء لك عمرًا بأكمله.