مقالات وآراء

إسلام الغمري يكتب: قادة المقاومة في شرم الشيخ… دلالات الحضور في زمن الاستهداف

في زمنٍ تتكاثر فيه العواصف، ويتكثّف الخطر من السماء والأرض، يصرّ قادة المقاومة الفلسطينية على الظهور لا الاختفاء، وعلى مواجهة العالم بعيونٍ مفتوحة لا بوجوهٍ غائبة.

كان يمكن أن يختاروا الصمت أو الغياب بعد أن طالت الضربات بيوتهم وأبناءهم ورفاقهم، لكنهم اختاروا الطريق الأصعب: الظهور في شرم الشيخ، على مرمى البصر من حدود الكيان الذي يهددهم صباح مساء.

إنه حضور يتجاوز البروتوكول إلى المعنى؛ فحين يُستهدف القائد في أهله وبيته ثم يظهر أمام الكاميرات والمفاوضين، فإنه لا يقدم عرضًا إعلاميًا، بل يعلن أن الخوف لم يعد جزءًا من المعادلة الفلسطينية.

لقد دفع إسماعيل هنية ثمن مواقفه بفقدان أبنائه، وودّع يحيى السنوار وصالح العاروري أقرب الناس إليهم، ولم تسلم بيوت القادة من القصف ولا عائلاتهم من الحزن.

ومع ذلك، لم يتراجعوا إلى الظلال، بل واجهوا الواقع بصلابةٍ تكاد تعيد إلى الأذهان صورة القائد الذي يمضي في الصف الأول وهو يعلم أنه الهدف الأول.

إن هذا الموقف في حد ذاته تحوّلٌ سياسيٌّ وأخلاقي، لأنه يعيد تعريف القيادة بوصفها قدرةً على تحمّل الخطر لا على تجنّبه.

من خالد وقطز إلى الحاضر… إرث القيادة الميدانية

في ذاكرة الأمة نماذج خالدة لقادةٍ فهموا أن الزعامة لا تُمنح من وراء المكاتب، بل تُكتسب بالموقف والميدان.

فـ خالد بن الوليد كان يشارك جنده في اليرموك واليمامة بنفس الدرع والسيف، لا يميز نفسه عن أحد.

وصلاح الدين الأيوبي قاد جيشه وهو يحمل همّ القدس أكثر مما يحمل راية النصر، فلم يبعث الجنود إلى المعركة بل سار معهم.

ثم جاء سيف الدين قطز في عين جالوت، يوم تهاوت الممالك وسقطت بغداد، فصرخ في وجه جنوده: «وا إسلاماه!» وتقدم بنفسه الصفوف حتى نال الشهادة بعد النصر.

هؤلاء القادة لم يكونوا خطباءً، بل نماذج عملية لشعار “إن كنت إمامي فكن أمامي”؛ القائد الذي يتقدم لا الذي يأمر بالتقدم.

وهكذا تتكرّر الفكرة نفسها اليوم — أن القيادة الحقيقية لا تُختبر في الهدوء بل في العاصفة، ولا تُقاس بعدد التصريحات بل بمدى اقترابها من الخطر الذي يعيشه الناس.

من كابول إلى الشام… إرادة التحرّر في زمن العولمة

في التاريخ الحديث أيضًا، تتجلّى صورٌ جديدة من هذا المعنى.

ففي أفغانستان، أثبتت تجربة الشعب الذي واجه الاحتلال الأجنبي لعقودٍ طويلة أن الإصرار والمثابرة قادرتان على كسر هيمنة القوى الكبرى.

لم يكن الأمر تأييدًا لمنهجٍ بعينه، بل درسًا في أن الإرادة الوطنية يمكن أن تنتصر حتى في وجه الجيوش العظمى.

إنها تجربة تُذكّر بأن إرادة الشعوب إذا امتلكت الصبر والعزيمة، فإنها تتحول إلى قوةٍ لا تُهزم بالحديد ولا بالنار.

وفي سوريا، قدّمت الثورة منذ انطلاقتها وجوهًا مدنية وميدانية عبّرت عن الثبات رغم الألم، فكانت مواقف قادةٍ مثل أحمد الشرع مثالًا على القيادة الأخلاقية المتماسكة التي اختارت المبدأ على السلامة الشخصية.

هؤلاء جميعًا — في الميدان أو في الموقف — جسّدوا فكرة أن القيادة ليست موقعًا آمناً، بل امتحانًا في الشجاعة والاستقامة.

دلالات الحضور في شرم الشيخ

إن مشاركة قادة المقاومة في مفاوضات شرم الشيخ، رغم تهديدات الاستهداف التي لم تتوقف، تحمل ثلاث دلالاتٍ كبرى:

  1. دلالة الإرادة: أن الشعب الذي يُحاصر لا يفقد قراره، بل يذهب إلى المفاوضات مرفوع الرأس، ممثلًا بنفسه لا بوكالة أحد.
  2. دلالة التحدي: أن الخوف لم يعد سلاحًا بيد العدو، لأن القادة الذين فقدوا أبناءهم لم يعودوا يخشون فقدان أنفسهم.
  3. دلالة الشرعية: أن القيادة التي تتقاسم الألم مع شعبها تكتسب شرعيةً لا تمنحها المؤتمرات، بل يهبها الميدان والدمع والصبر.

الاستهداف في الدوحة… محاولة فاشلة لإقصاء القيادة

لقد جاء الاستهداف الأخير في الدوحة — العاصمة التي احتضنت لسنواتٍ جهود الوساطة والملفات الإنسانية — ليكشف عن نيةٍ واضحة لدى الاحتلال: إخراج القيادة السياسية من الميدان الدولي، وشلّ قدرتها على الحركة والتأثير.

كان الهدف أن تعيش القيادات تحت ضغطٍ دائم يدفعها إلى الاختفاء، فتفقد تواصلها السياسي والإعلامي وتُترك الساحة فارغة.

لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا؛ إذ تحوّل التهديد إلى دافعٍ إضافي للمواجهة العلنية.

فبدل أن ينسحب القادة من المشهد، ظهروا في شرم الشيخ بكل وضوح، جالسين على طاولة المفاوضات تحت عدسات الإعلام، ليقولوا للعالم:

إننا هنا، لم نُقصَ، ولم نخضع للخوف، وسنواصل مسؤوليتنا السياسية والإنسانية حتى النهاية.

بهذا الموقف، أفشلت المقاومة خطةً خبيثةً كانت تهدف إلى فصل القيادة عن شعبها، وأثبتت أن القيادة التي تُستهدف في الخارج تزداد حضورًا في الداخل.

خاتمة

إن التاريخ لا يُكتب فقط بالسيوف ولا بالاتفاقيات، بل بالمواقف التي تُثبت من يستحق أن يكون في الصف الأول.

وحين يظهر القادة الفلسطينيون في شرم الشيخ بعد كل ما أصابهم من فقدٍ وتهديد، فإنهم يرسلون رسالة أبعد من السياسة:

أن هذه الأرض لا يحرسها السلاح وحده، بل الإيمان بعدالة القضية، والقيادة التي لا تهرب من المصير المشترك مع شعبها.

ومن اليرموك إلى عين جالوت، ومن كابول إلى غزة، يظل الدرس واحدًا:

القائد الحقيقي هو الذي يقول بفعله قبل قوله: «إن كنت إمامي فكن أمامي».

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى