شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : حين عاد باسم يوسف ليُضحكنا على وجعنا

لم تكن عودة باسم يوسف إلى الشاشة مجرد إطلالة عابرة، بل كانت كمن يُعيد المرآة أمام وجهٍ حاول أن ينسى ملامحه.
عاد ليذكّرنا أننا كنّا يومًا نضحك بصدق، قبل أن يتحول الإعلام إلى سوقٍ كبير تُباع فيه الضمائر، وتُشترى فيه النيات.

في لقائه مع أحمد سالم، على شاشة التلفزيون المصري، بدا باسم كمن يمزح وفي صوته وجع، وكمن يسخر من نفسه ومن زمنٍ صار فيه الوعي ترفًا، والضحك جريمة، والصدق نكتة ثقيلة لا تُذاع على الهواء.
حين قال ساخرًا إن أجره «٢٢ مليون دولار»، لم يكن يروّج لأسطورة، بل يضع لافتة على باب الحقيقة: أن الإعلام لم يعد منبرًا، بل متجرًا، وأن المذيع لم يعد رسول فكرة، بل سلعةً تُقاس بسعر المشاهدات.

باسم يوسف قالها ببساطة: «إحنا كلنا سِلَع… والناس بتروح للي بيسليها».
جملةٌ تختصر حال أمةٍ صار فيها الجدّ مملًا، والسطحية مطلوبة، والنجاح يُقاس بعدد الضحكات لا بعدد الحقائق.

لم يتحدث الرجل فقط عن الشائعات ولا عن المقابل المادي، بل عن فلسفة الإعلام نفسه، عن زمنٍ صار فيه الكذب أكثر إقناعًا من الحقيقة، والتهريج أسرع طريقٍ إلى النجومية.


من الطبيب إلى الكوميديان إلى المنفيّ، قطع باسم يوسف طريقًا مليئًا بالتناقضات، تشبه كثيرًا طريقنا نحن: نبحث عن معنى، فنجد مرآة، نبحث عن وطن، فنجد تذكرة سفر.

اعترف أنه ذهب إلى أمريكا معتقدًا أن أبواب هوليوود ستُفتح له، فإذا بها تُغلق في وجهه، فعرف أن الشهرة لا تهاجر، وأن الإنسان حين يغترب عن وطنه يفقد لغته الأولى حتى لو أتقن كل لغات العالم.


تحدث عن «متلازمة المحتال» التي تهمس له دائمًا أنه لا يستحق كل هذا الضوء.
كأنما يعترف بلسان جيلٍ بأكمله عاش بين التصفيق والخذلان، بين الضوء والظل، بين الحلم والهاوية.

في حديثه عن مناظرته الشهيرة مع بيرس مورجان، لم يتباهَ، بل بدا كمن يروي نكتة عن العالم الغربي الذي يصدّق الدمعة أكثر من الحقيقة، والخوف أكثر من العقل، والسخرية أكثر من المنطق.
ووراء المزاح، كانت هناك مرارة حقيقية، كأن باسم — وهو يضحك — يبكي.
يبكي على وطنٍ غادره لكنه يسكن فيه، وعلى زمنٍ يراه من بعيد كمن يرى نفسه في مرآةٍ مشروخة.

حين سأله أحمد سالم: هل «مصر وحشتك؟» أجاب باسم: «طبعًا… بس أنا خايف، لأن مصر اللي وحشتني هي مصر 2014».


جملةٌ قصيرة، لكنها طويلة بقدر المسافة بين الحنين والخوف، بين الحب والخذلان.

مصر التي وحشته ليست وطنًا فقط، بل لحظة صدقٍ انكسرت، وزمنٌ كان الضحك فيه مقاومة، والكلمة فيه حلمًا، قبل أن يُصبح الصمت فضيلة.

وفي نهاية اللقاء، وجّه رسالته إلى جيل GenZ، داعيًا إياهم للتفكير لا التلقين، وللضحك لا التسليم، قائلًا بروح الحكيم الساخر: «مش لازم نكون متفقين… المهم نكون صادقين».


لم يكن باسم يوسف بطلًا في هذه العودة، ولا خصمًا، بل كان مرآةً نادرة في زمنٍ يخاف من المرايا.
قال ما أراد أن يقول دون أن يرفع صوته، واكتفى بأن يضعنا جميعًا أمام أسئلتنا القديمة:


هل نضحك لأننا بخير؟ أم لأننا لا نملك سوى الضحك؟

لقد عاد باسم يوسف لا ليُضحكنا عليه، بل ليُضحكنا على أنفسنا.
ولعل تلك هي الكوميديا الوحيدة التي ما زالت تملك الشجاعة لتقول الحقيقة في وجه العبث.

في زمنٍ صارت فيه النكات أقرب إلى البلاغات، والابتسامة تُراقَب كما تُراقَب الكلمات، تظل السخرية فعلًا جريئًا من أفعال الإيمان بالإنسان.
وهكذا، حين نضحك من القلب، نُعلن — دون أن ندري — أننا ما زلنا أحياء.

ولعلها كانت رسالة باسم الأخيرة والأجمل: أن نضحك… كي ننجو من هذا العبث الجادّ جدًا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى