
خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرامية إلى تحقيق السلام في غزة، تقضي في مرحلتها الأولى بإطلاق جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء منهم والأموات، وإذا تمّ تنفيذ الخطوة الأولى بإطلاق سراح الأسرى،
فهذا سيريح الى حدّ بعيد نتنياهو والداخل “الإسرائيلي”، بعد أن شكّل موضوع الأسرى كابوساً ثقيلاً عليه، في ظلّ مقاومة فلسطينية بطولية أسطورية على مدى عامين كاملين ضدّ العدوان، وحرب الإبادة الجماعية، والجرائم الهمجية ضدّ الإنسانية التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، مما حرّك ضمير شعوب العالم لدعم قضيّتهم وحقوقهم المشروعة، وأدّى إلى تحوّل دولي، عزل “إسرائيل” سياسياً، وأبرز القضية الفلسطينية مجدّداً على الساحة العالميّة مع التأييد الساحق لها.
رغم إدراك دول وشعوب العالم طبيعة دولة الإرهاب، وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني، بقيت واشنطن الداعم الوحيد لها في مجلس الأمن دون تحفّظ، والذي بان على حقيقته البشعة أمام العالم كله، فكان لا بدّ من العمل على وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولو مؤقتاً، من خلال خطة عرابها ترامب، تهدف أولاً إلى إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين، وعدد من الأسرى الفلسطينيين، لأنّ موضوع الأسرى ظلّ يؤرق نتنياهو ويأخذ من رصيده الكثير في الداخل الإسرائيلي. ترامب أكد “أنّ المرحلة الحالية تتطلب تسريع خطة الإفراج عن المحتجزين وتهيئة الظروف لبدء مسار التسوية، وأنه يقدر وقف العمليات العسكرية مؤقتاً”. (وليس دائماً)!
إذ أنّ أولويته إطلاق سراح الأسرى مع وقف لإطلاق النار. لكن ماذا بعد وقف إطلاق النار المؤقت؟! ألن يجعل هذا، نتنياهو في ما بعد متحرّراً من موضوع الأسرى الذي كبت على أنفاسه لمدة عامين، ويصبح طليق اليدين، لينطلق في ما بعد لتحقيق أهدافه التي يبرّرها دائماً بحجج وذرائع واهية، ليفعل في غزة ما يريده، غير عابئ بالمفاوضات اللاحقة، ولا بالحلول الوهمية، وهو المراوغ، والمخادع، والخبير الخبيث في التسويف والمماطلة، وإضاعة الوقت !
إنّ الإشكالية الكبرى ستظهر جلياً بعد الإفراج عن الأسرى “الإسرائيليين”، إذ سيتصرّف نتنياهو في المفاوضات التي ستجري حول مستقبل قطاع غزة، من موقع المماطلة ليفرض شروطه على القطاع ومقاومته، وفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية برؤيته الخاصة التي يريد تطبيقها لجهة إدارة القطاع، ونزع سلاحه، وتحديد المناطق والنقاط التي ستظلّ تحت سيطرة الاحتلال، والإشراف العسكريّ عليها.
لقد استطاعت أميركا وحلفاؤها في أوروبا منذ سنوات تحويل الصراع العربي ـ “الإسرائيلي” إلى مشكلة بين “إسرائيل” والفلسطينيين، فيما خطة ترامب تريد فصل غزة عن الضفة الغربية، وتسقط من على أرضها الدولة الفلسطينية، طالما “إسرائيل” ستحتفظ بأجزاء من غزة في ظلّ وقف إطلاق النار، ولن تكون على عجلة من أمرها للقبول بحلّ نهائي لا يلبّي أهدافها الاستراتيجية البعيدة التي تلغي في الشكل والأساس الدولة الفلسطينية!
لقد قالها نتنياهو بالفم الملآن: لا للدولة الفلسطينية، وقالها سموتريتش: “من السخافة تصوّر البعض أنّ علينا دفع ثمن اتفاقيّات سلام بالتنازل عن “أراضينا”، وإقامة دولة فلسطينية “إرهابية” تهدّد وجودنا ومستقبلنا!
هناك في خطة ترامب بنود لا يمكن لفصائل المقاومة الفلسطينية القبول بها، أو المساومة عليها، كالتي تلغي أيّ دور لحماس في الحكم في غزة بشكل مباشر أو غير مباشر، وبأيّ شكل من الأشكال، أو نزع سلاحها، أو إدارة غزة من قبل لجنة تكنوقراط فلسطينية غير حزبية مؤلفة من خبراء فلسطينيين ودوليين تكون تحت إشراف هيئة دولية مؤقتة (مجلس السلام) وهو في الحقيقة مجلس وصاية، يرأسه ترامب مع مشاركين مثل توني بلير الذي أدانه سياسياً وأخلاقياً تقرير لجنة تشيلكوت Chilcot البريطانية عام 2016 حول مشاركته في غزو العراق عام 2003، الذي لم يكن مبرّراً في ظلّ وجود خيارات دبلوماسية لم يرغب بلير باستخدامها.
جون شيلكوت رئيس اللجنة قال إنّ بلير استند في حربه على العراق الى الهواجس الشخصيّة أكثر من استناده إلى الحقائق والتقارير الاستخبارية، ووصف علاقة بلير بالرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الإبن بالتبعية الكاملة! تتضمّن خطة ترامب أيضاً، الانسحاب التدريجي وفق معايير مرتبطة بالأمن ونزع السلاح، إذ سيبقى لـ “إسرائيل” وجود أمني “مؤقت” عند الحدود، وبمجرد تنفيذ إصلاحات السلطة الفلسطينية، قد يفتح مساراً قابلاً للمصداقية نحو تحقيق دولة فلسطينية.
عبارة (قد) ليست للتأكيد او الحسم، بل للمراوغة والتسويف والتضليل. كما تلحظ الخطة إقامة حوار بين “إسرائيل” والفلسطينيين، على أفق سياسيّ من السلام والعيش المشترك. (دون الإشارة الى دولة فلسطينية)! أما “مجلس السلام” فسيرأسه رئيس دولة أجنبيّة وإدارة دوليّة جزئيّة، وهذا يسقط الشرعية والسيادة عن الفلسطينيين، إذ لا يستند المجلس إلى قرارات الأمم المتحدة، 242، 338، 194… واتفاق أوسلو، ويخلو من حل الدولتين الذي يؤكد إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، لم تتضمّن الخطة إنهاء الاحتلال التي يمكن لها أن تنتج سلاماً! كيف يمكن التوصل إلى الحلول دون مشاركة فلسطينية كاملة من كافة الأطراف الفلسطينية (السلطة والفصائل)؟!
لا يمكن استخدام المساعدات مقابل التنازل عن الحقوق، أو فتح المعابر بوجود وتحكم قوة أجنبية بها، وإشراف “إسرائيلي” مباشر دون رقابة فلسطينية؟! هل هناك التزام “إسرائيلي” بعد توقيع الاتفاق، بعدم مهاجمة غزة أو الضفة؟! خطة ترامب هي استمرار للنهج الأميركي المنحاز بالمطلق لـ “إسرائيل”، التي لا تعترف بجوهر القضية الفلسطينية ولا تستند إلى المرجعيات الدولية وقرارات الأمم المتحدة.
إنّ استبعاد الفصائل الفلسطينية عن الحكم متروك للشعب الفلسطينيّ، وليس لترامب ونتنياهو، لأنّ خطة ترامب ترمي إلى فرض حكم خارجي، وفصل غزة عن الضفة، وإبعاد فكرة الدولة الفلسطينية، واستبدالها بمشروع اقتصاديّ، دون معالجة جوهر القضيّة المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي. كما تمهّد الخطة إلى السيطرة الأجنبية على القطاع. وإلى هيمنة دولية عليه، من خلال إدارة أجنبية بلا سيادة فلسطينية.
بذلك يكون الفلسطينيون متلقين، وليسوا طرفاً مساوياً. أنظروا إلى اتفاق أوسلو، وسلوا الرئيس محمود عباس المفاوض الأول، أين أصبح الاتفاق بعد 32 عاماً من توقيعه، وأين أصبحت السلطة الفلسطينية و”دولتها” الموعودة؟! ألم يؤكد وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول لرئيس وزراء السلطة الفلسطينية أحمد قريع، مهندس اتفاق أوسلو على التزام الولايات المتحدة بإقامة دولة فلسطينية بحلول 2005؟!
أين أصبح وعد والتزام الولايات المتحدة بعد 20 عاماً، وما الذي فعلته لإقامة الدولة الفلسطينية؟! ليكن واضحاً، أنّ الفلسطينيين والقادة العرب، وقضيتهم المركزية على المحك. إنهم يعلمون ويدركون أنّ “إسرائيل” لن تعطيهم ما طلبوه من ترامب، الذي رمى طعمه لهم الذي لن يلزم “إسرائيل” مستقبلاً على تنفيذ ما لا تريده، وهو الذي يقف بكلّ قوة إلى جانبها. أما نتنياهو، فسيكون بعد إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين أكثر شراسة، واندفاعاً في سياسته العدوانية والتوسعية، ليس في الضفة الغربية فقط، وإنما أيضاً في لبنان وسورية وغيرها من بلدان المنطقة.
لا نهلّل لخطة ترامب، وإنْ كان ظاهرها يوقف إطلاق النار، ويحمل “السلام”، و”الأمان”، والمساعدات للشعب الفلسطيني، فلو كان ذلك هدفه فعلاً، لما واجه ترامب العالم كله، واستخدم في مجلس الأمن حق النقض ـ الفيتو، على وقف إطلاق النار في غزة، وعلى مشروع قرار يعترف بالدولة الفلسطينية، فكان الصوت الأميركي هو الصوت النشاز الوحيد المعارض دون وجه حق داخل مجلس الأمن. لا نتوقف فقط أمام نهج واشنطن وتل أبيب ضد الشعب الفلسطيني لوأد قضيته، وإنما نتوقف أيضاً أمام جهات عربية لم تدافع بجدية ومسؤولية عالية عن قضية فلسطين وحقوق شعبها.
ولم تقرن الأقوال بالأفعال، إذ بازدواجية وتباين مواقفها حيال فلسطين ودولة الاحتلال، هيمنت الولايات المتحدة على المنطقة، وتحكمت بقرارها، ما جعل “إسرائيل” تقبض على السلطة الفلسطينية وتحجّمها، بغية تبديد حلم الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة. المفاوضات المستقبلية لن تكون سهلة، وستكشف حقيقة الموقف الأميركي ـ الإسرائيلي لجهة الاعتراف بالحقوق الفلسطينية الكاملة، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة التي لن تسمح “إسرائيل” بإقامتها بأيّ شكل من الأشكال. لذا تبقى الأبواب مشرعة على كلّ الاحتمالات!