
خلف كل جدارٍ صامتٍ في السجن، هناك حكايةٌ تتنفس. كنت أظنّ أن الجدران تُغلق على الجسد، لكني اكتشفت أنها تفتح أبوابًا كثيرة على النفس، على الذاكرة، وعلى ما نظنّ أننا نسيناه. في الزنزانة، لا أحد يعيش في الخارج؛ الجميع يعيش في داخله، في أفكاره التي تصير وطنًا حين يُصادَر الوطن.
ما وراء الجدران لم يكن فراغًا رماديًا، بل عالمًا من الملامح المتناقضة، يجمع بين الوزراء والسجناء، بين من حملوا نياشين الدولة ومن حملوا جراحها. هناك، تذوب الرتب وتتكشف الطبائع. فالحديد لا يعرف الألقاب، والجدران لا تسأل عن الانتماء، بل عن الصبر.
رأيتُ في تلك الزنازين وجوهًا لن أنساها أبدًا. كان بيننا الوزير توفيق عبده إسماعيل، وزير السياحة وشؤون البرلمان، وأحد الضباط الأحرار، وصديق والدي، وهو من ميت فارس بمحافظة الدقهلية، بلديات صديقي وزميلي أيام الجامعة طارق عبد العزيز، وهو حاليًا رئيس الهيئة البرلمانية لحزب الوفد. وكان توفيق بك أيضًا زميلي في البرلمان ورئيس لجنة الخطة والموازنة. كان رجلًا كبير القيمة والخبرة والوطنية، ظلموه في نهاية حياته في قضية نواب القروض.
وكان معي أيضًا النائب خالد حامد محمود، نائب البحيرة ووزير الحكم المحلي السابق، رجلٌ صلب الشكيمة إلى حدٍّ كان يُوجع نفسه به. لسنواتٍ رفض الزيارة من أسرته كي لا ترى زوجته وبناته جدران السجن. كنت أشفق عليه من ذلك الكبرياء القاسي، وأحترمه أكثر لأنه ظلّ واقفًا في وجه الانكسار.
ومرّ عليّ كذلك ماهر الجندي، النائب العام السابق ومحافظ الجيزة والغربية، الذي جمع بين الضعف وآثاره الجدل، فكان على النقيض من كل هؤلاء في كل شيء، لكنه ظلّ إنسانًا منكسر الطموح والرغبة في الحفاظ على صورته. رحم الله روحه.
وفي فترةٍ أخرى، شاركني السجن محمد الوكيل رئيس قطاع الأخبار في التلفزيون المصري، وكذلك وزير المالية الأسبق محيي الدين الغريب، وهو رجلٌ دمث الخلق، هادئ الصوت، نقيّ السريرة. أُقحم اسمه في قضية الأسواق الحرة بسبب خلافه مع مجموعة الدكتور عاطف عبيد، فدفع ثمنًا في زمنٍ لا يحتمل الصادقين.
مرّ عليّ في السجون أيضًا معتقلون سياسيون من كل الاتجاهات. كان أبرزهم معتقلو جماعة الإخوان. قبل دخولي البرلمان وبعده، زاملتُ في السجن الدكتور محمد مرسي، ثم المهندس خيرت الشاطر، وزوج ابنته الراحل المهندس أيمن عبد الغني، والنائب محمد عماد صابر، والدكتور عصام العريان رحمه الله، والمهندس علي عبد الفتاح، والمهندس مدحت الحداد، وغيرهم كثير ممن صاروا اليوم بين القضبان أو في القبور أو المنافي.
ومن الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد مر علي عشرات المعتقلين. أذكر منهم الدكتور عمرو عبد المنعم، الكاتب والباحث حاليًا والذي كان يعمل معي في مطلع التسعينات من القرن الماضي صحفيًا في مكتب جريدة المدينة. وكنت قد أرسلته يومًا لمتابعة أخبار وزارة التموين، ولم يعد. ثم التقينا بعد خمسة عشر عامًا في سجن مزرعة طرة، في أول يومٍ لي هناك، وكأن الزمن أراد أن يعتذر عن غيابه الطويل.
ورغم كل تلك الوجوه المحفورة في ذاكرتي وقلبي، إلا أن بعض الأسماء الصغيرة المجهولة كانت أعمق أثرًا من الكبار. حين صدر لي حكمٌ قضائيّ بألا أُحبس انفراديًا، نقلتني السلطات تنفيذًا له إلى ما يُسمّى “مستشفى السجن”، وهي زنزانة واسعة لا تحمل من اسمها إلا الاسم.
تنفيذًا للحكم، كانت السلطات تُرسل إليّ شركاء زنزانةٍ بعنايةٍ غريبة. بدا لي أن الهدف ليس تطبيق الحكم بل معاقبتي به، لعلّي أندم على طلبي. لكن الله كان معي، يُرسل لي في كل اختبارٍ درسًا.
أرسلوا لي ذات يوم شابين منقولين من سجن بورسعيد، وبعد أيامٍ اكتشفت أنهما مصابان بمرض الإيدز. أبلغت النيابة فورًا، فتم نقلهما خلال ساعة. ثم أرسلوا إليّ رجلًا تجاوز التسعين من عمره، لا يتجاوز وزنه الأربعين كيلوجرامًا، اسمه المتداول بين السجناء عم زيزو، وكان محكومًا عليه ظلمًا في قضية بشير المحجوب، شقيق الدكتور رفعت المحجوب.
كان “عم زيزو” ترزيًا بسيطًا اختبأ عنده للحظات في محلّه القديم وسط البلد المحجوب وقت القبض عليه، فقبضوا على زيزو ظنًّا أنه شريكه. وهو من لا يعرف شيئًا عن الدنيا إلا الإبرة والخيط!
في إحدى الليالي سألني: “صحيح يا دكتور، أنت اللي دخلت الانتخابات ضد عبد الناصر؟” قلت له مبتسمًا: “عبد الناصر مات يا عم زيزو.” فبكى وقال بعنادٍ طفوليٍّ: “عبد الناصر ما ماتش.”
كان يطلب مني كل يوم شيئًا واحدًا من الكانتين: كيس شيبسي. كنت أضحك، وأطلب من العسكري أن يأتي له بكيسٍ على نفقتي كل صباح. ويوم وفاته، ناداني وقال بصوتٍ خافت:
“لك في ذمتي ٢٢ جنيهًا.” ثم أخرج من كيس المخدة أرباع جنيهاتٍ فضية كان يجمعها من أكياس الشيبسي التي كانت تضعها كجوائز.
وقال: “كنت بجمع ثمن التاكسي اللي هرجع بيه البيت، بس دلوقتي هرجع على نفقة السجن، لأني هموت النهاردة.”
ومات بين يديّ كما يموت طفلٌ نام على حضن الحنان. ظللت أقرأ عليه سورة يس عشر ساعات، حتى جاؤوا في الصباح لنقله. لم أودّع أحدًا كما ودّعت عم زيزو، لأنه علّمني أن البساطة هي نوعٌ من البطولة قد لا تطلبه.
وفي خضم هذه التناقضات، لم تخلُ الأيام من ضوءٍ إنسانيٍّ طريف. كان بين من التقيت بهم في السجون الطيّار الكفيف صلاح جمعة، أحد أكثر من قابلت ظرفًا وذكاءً. كان يحوّل المأساة إلى طرفةٍ ببراعةٍ نادرة، وكنت أقول له دائمًا: “لو كانت الحريّة تُقاس بخفّة الظل، لكنت أول من يُفرج عنه.”
تلك الأسماء، رغم تباينها، كانت كألوان الطيف الإنسانيّ: من الوزير إلى المراهق، من القاضي إلى السارق، من المؤمن إلى الحائر. جمعتنا جدرانٌ واحدة، وأحلامٌ متباينة، وذاكرةٌ واحدة من الصبر.
هناك، ما وراء الجدران، أدركت أن السجن لا يُفرّق بين من جاء بملفٍّ سياسيٍّ أو جنائيٍّ أو قَدَريّ. الكلّ يجلس في صفٍّ واحد أمام امتحانٍ واحد اسمه “الإنسان”.
ومع مرور الوقت، لم تعد الجدران عدوًّا، بل مرايا. رأيت فيها نفسي، ووطني، وأحلامي التي لم تمت رغم الحديد. كنت أكتب على حوائطها الصغيرة أسماء من مرّوا، وأقول لنفسي: هؤلاء هم الوجوه الحقيقية لمصر التي لا تموت.
وما وراء الجدران، لم يكن سجناً فقط، بل سيرة وطنٍ مصغّرة: وطنٌ سُجن أبناؤه لأنهم أحبّوه أكثر مما يجب، ولأنهم صدّقوا أن الحريّة لا تُستعطف، بل تُنتزع بالقلم، وبالوجدان، وبالإيمان أن الكلمة تملك جناحين ولو قُطعت الأيدي.
لذلك، حين خرجت من السجن، لم أخرج وحدي. خرج معي كل من عبر حياتي خلف القضبان، من الوزراء والعمّال، من الساسة والجنائيين، من عم زيزو إلى صلاح جمعة. خرجوا معي في الذاكرة، في الحلم، وفي اللغة. لأنهم جميعًا كانوا — بطريقةٍ ما — جزءًا من حريّتي التي لم يستطع الحديد أن يسجنها.