
لا يخرج الإنسان من السجن حين تُفتح له الأبواب، بل حين يُشفى من وجعه.
وأنا — رغم مرور 16 عامًا من تاريخ آخر اعتقال — لم أُشفَ بعد.
خرجتُ من بين الجدران الحديدية، لكنّ بعض الجدران بقيت داخلي،
تعيش تحت الجلد، في الذاكرة، في العادات، في الألوان، في طريقة النظر إلى العالم.
ما زلتُ أحمل السجن في داخلي كندبةٍ صامتة لا تزول.
أبدأ صباحي من سريري الذي لا يتجاوز عرضه سبعين سنتيمترًا.
هو السرير الذي نام عليه جسدي في زنزانةٍ باردةٍ من قبل. رفضتُ أن أستبدله بسريرٍ فخمٍ أو فندقيّ ناعم، لأن هذا السرير الضيّق صار جزءًا من تكويني، من طريقتي في الحياة.
هو فراشي ومكتبي وغرفة معيشتي في آنٍ واحد.
فوقه قرأت وكتبت، وأكلت، وضربت، وحلمت، وصليت، ومرضت، وشُفيت، وبجواره بكيت وضحكت.
إنه قطعة تراثية من الزنزانة، لكنّي أحملها معي لأنّها، بطريقةٍ غامضة، صارت قطعةً من الحرية أيضًا.
حتى ألوان حياتي لم تتبدّل.
أُفضّل الأزرق في كل شيء، ربما لأنني عشتُ فيه سنواتٍ طويلة.
ربما تغيّرت أنواع الأقمشة، لكن اللون بقي.
اللون الأزرق صار شاهدًا عليّ، لونًا للذاكرة لا للثياب.
كلّ من يعرفني يظنّ أني أختاره ذوقًا، ولا يعلم أني أختاره وفاءً.
حين أمرض، أبحث — بلا وعيٍ — عن الطبيب ذاته الذي راقب حالتي في السجن.
هو أكثر من طبيب، كان شاهدًا على حالتي الأولى حين مرض الجسد وتمرّد القلب.
من بين عشرات الأطباء، عرب وأتراك وأوروبيين، لا أثق إلا به، ربما لأننا اقتسمنا لحظة حقيقية، ولأنّ الصدق في زمن القهر يصبح نادرًا كالعافية.
وربما تبدو أهم وأغرب صداقاتي تلك التي جمعتني بالضابط المسؤول عن السجن.
ذلك الذي كان بيني وبينه خلافٌ في الموقع، لكنه ظلّ أقرب الناس إلى قلبي، وأنقى شخص عرفته في حياتي.
كان يرى فيّ إنسانًا لا معتقلًا، وكنت أرى فيه ضميرًا لا رتبة.
مرّت خمسة عشر سنة لم نلتقِ فيها، لكنّي ما زلت أستحضره في عقلي وقلبي، أُكلّمه في الأزمات كأنّي أستدعي الجزء الطيّب والذكي من البشر لأحاوره.
نعم، كان واحدًا من بين مئات الضباط الذين مرّوا بحياتي، لكنه كان واحدًا بالفكر والحب والوفاء والإنسانية، لا بالوظيفة.
نعم، أعيش الآن خارج الزنزانة، لكنني ما زلت أستيقظ كل فجرٍ على صوتٍ داخلي يقول: “عدّ الأيام.”
ما زلت أتناول قهوتي في نفس الفنجان المعدنيّ الذي كنت أملكه هناك.
أحتفظ به لا عن فقرٍ ولا عن حنينٍ مرضيّ، بل لأنه تذكيرٌ يوميّ بأنّ البساطة كانت مدرّسة الحرية الأولى.
أحيانًا أضحك حين أتذكّر أنني ما زلت أشعر بالغربة أمام الهاتف المحمول.
ظهر “فيسبوك” وأنا خلف القضبان، وحين خرجت كان العالم قد تغيّر.
صار الناس يكتبون بكبسة زرّ، ويتراشقون بالآراء كما كنا نتراشق بالنكات عبر الجدران.
كلّما فتحت هاتفي أشعر كمن عاد إلى وطنٍ لم يعشه من قبل.
التكنولوجيا بالنسبة لي ليست تطوّرًا فقط، بل اختبارٌ للزمن الضائع.
وفي لحظاتٍ كثيرة، أسترجع الوجوه التي عبرت سجني الطويل:
من الوزراء إلى السجناء المجهولين، من توفيق عبده إسماعيل إلى عم زيزو،
من صلاح جمعة إلى خالد حامد محمود،
من محمد مرسي إلى خيرت الشاطر،
من محيي الدين الغريب إلى أولئك الذين لا أسماء لهم إلا في الذاكرة.
كلّ واحدٍ منهم ترك أثرًا في داخلي، كأنهم فصول كتابٍ كُتب عليّ أن أعيشه لا أن أقرأه.
ومن كلّ هذه الوجوه، تعلمتُ أن السجن كان جامعةً للإنسان.
يُدرّس فيها الألم بعمقٍ أكثر من أي فلسفة، ويُمنح فيها الصبر شهادةً لا تُعلّق على الحائط بل على القلب.
ومن تلك الجامعة خرجتُ بشهادةٍ واحدة: أنّ الإنسان الذي لا يعرف ضعفه، لا يعرف نفسه.
كل ما أكتبه اليوم هو جزءٌ من تلك الحكاية المستمرة.
أكتب لأُبقي ذاكرتي يقظة، لأذكّر نفسي أن الحرية لا تُقاس بمكانٍ تسكنه، بل بمساحة الوعي التي تملكها.
أكتب لأُعيد التوازن بين ما كنته هناك، وما صرتُه هنا.
أكتب لأقول إن من خرج من السجن لا يعني أنه خرج من التجربة، فالتجربة تسكنه وتُعيد تعريفه كل يوم.
بعض أصدقائي يندهشون حين يعلمون أن سريري ما زال كما كان، وأن لوني ما زال كما كان،
وأنني ما زلت أُدقّق في مواعيد الصباح كأنّ الحارس ما زال يعدّ خطواتي.
لكنني أبتسم، وأقول لهم: من عاش في قفصٍ، يتعلم كيف يطير، لكنه لا ينسى شكل القفص.
لم تعد الجدران حولي، لكنها بقيت في ذاكرتي لتذكّرني أن النور لا قيمة له بلا ظلمةٍ سابقة.
بقيت سجلات الألم، لا لتقيّدني، بل لتمنعني من القسوة.
لأن من عرف القيد، لا يمكن أن يظلم أحدًا بعده.
ربما لذلك ما زلتُ سجينًا، سجين التجربة لا الزنزانة،
سجين القلق النبيل الذي يُرافق كل من عاش الوعي وسط العتمة،
سجين الذاكرة التي لا تنام، والضمير الذي لا يُساوم، والحلم الذي لا يتعب.
وما زلت، كلما أمسكت القلم، أشعر أنني في مواجهةٍ مع ذلك الحارس القديم الذي كان يفتّشني بحثًا عن الورقة،
ولا يعلم أن الحبر يسكن في دمي لا في جيبي.
أبتسم وأكتب، لأقول له:
ها أنا أكتب بعد كل هذه السنين… وما زلتُ سجينًا،
لكنّ سجني الآن اسمه الحرية،
حرية أن أروي، وأن أتذكّر، وأن أظلّ شاهدًا على زمنٍ ظنّ أن الحديد أقوى من الحبر.