مقالات وآراء

شادي العدل يكتب: الجمهورية الجديدة

بينما تتردد أصداء “الجمهورية الجديدة” في أروقة السلطة ووسائل الإعلام، يقف المواطن المصري حائراً بين بريق الشعار وعمق المضمون، إنها ليست مجرد تحول إداري أو اقتصادي، بل هي رحلة وجودية تسأل أي مصر نريد؟ وأي إنسان مصري نطمح أن يكون؟

لقد آن الأوان لأن نعترف أن العالم من حولنا يتحرك بسرعة الضوء، بينما ظللنا نحن ندور في حلقة مفرغة من الترقيع السطوي، إن الجمهورية التي تأسست قبل سبعة عقود لم تعد قادرة على استيعاب تطلعات شعب عريق يحلم باللحاق بركب الحضارة، فالتغيير الحقيقي يبدأ من الجذور، من فلسفة بناء الدولة ذاتها، لا من القشور والواجهات، فما قيمة تجديد المناهج الدراسية والمباني الحكومية إذا ظلت العقلية الحاكمة هي ذاتها، تكرس الاستبداد وتخاف من التنوع؟

إن الجمهورية الجديدة التي ننشدها يجب أن تكون دولة مدنية بالمعنى الفلسفي العميق، لا بالمعنى السياسي الضيق، دولة لا تقوم على مجرد فصل الدين عن السياسة، بل على رؤية إنسانية شاملة تضع المواطن في القلب، دولة يكون الدستور فيها عقداً اجتماعياً مقدساً، والتعددية فيها ثراءً لا تهديداً، والحرية فيها قيمة مطلقة لا منحة مؤقتة، دولة تدرك أن قوتها في تنوع أبنائها، وعظمتها في قبولها للاختلاف.

وفي هذه الدولة، تكون الديمقراطية الليبرالية وسيلة للحكم الرشيد، لا مجرد آليات انتخابية جوفاء. ديمقراطية تسمح بتنوع الآراء، وتحتفي بالمعارضة، وتؤمن بأن الحقيقة ليست حكراً على أحد، ديمقراطية تتيح للمجتمع المدني أن ينمو بحرية، بعيداً عن شكوك الماضي وقيود الحاضر، فيصبح رقيباً على السلطة وشريكاً في التنمية.

أما العلاقة بين الدين والدولة، فهي تحتاج إلى إعادة تعريف جذرية. فالفصل بينهما ليس عداء للدين، بل هو صون لقدسيته وحماية لاستقلال القرار السياسي. في جمهوريتنا الجديدة، يكون الدين علاقة شخصية بين الإنسان وربه، أما الدولة فهي بيت للجميع، لا تفرض عقيدة ولا تحابي مذهباً، بل تكفل حرية الضمير والمعتقد للجميع.

ولا معنى لأي مشروع نهضوي دون سيادة القانون، ذلك الحلم القديم الجديد. قانون عادل يشمل الجميع، يحمي الضعيف من جبروت القوي، ويضمن للفقير نفس الحقوق التي للغني، قانون يجعل الكل سواسية أمام القضاء، فلا وصاية لفئة على أخرى، ولا امتيازات لطبقة على غيرها.

غير أن بناء هذه الجمهورية يتطلب شروطاً وجودية قبل أن تكون سياسية، فأول هذه الشروط المواطنة الحقيقية، لا مواطنة المناسبات والخطابات المفتعلة، مواطنة تتحول إلى ممارسة يومية، يشعر فيها كل مصري أنه صاحب حق ومسؤولية، بغض النظر عن دينه أو جنسه أو لونه، وثاني هذه الشروط مجتمع مدني قوي، يتحرر من عقدة الولاء ويصبح شريكاً حقيقياً في صنع القرار، وثالثها ثقافة التعددية، التي تقبل بالآخر المختلف فكراً واعتقاداً، وتؤمن بأن الحكمة تضيع عندما تحتكرها جهة واحدة.

إن الجمهورية الجديدة التي نحلم بها هي وطن يجد فيه الإنسان حريته وكرامته، وطن يكون فيه القانون سيداً والعدالة شعاراً، وطن يتسع للجميع بلا استثناء، هي جمهورية تضع الإنسان في المركز، فتصبح مصر كما يجب أن تكون واحة للحرية، وحاضنة للتنوع، ومنارة للحضارة.

هذه ليست أحلاماً مثالية، بل هي أسس أي دولة عصرية تريد أن تحتل مكانها بين الأمم، فلتكن جمهوريتنا الجديدة فضاءً للحرية، وحاضنة للتنوع، وواحة للكرامة الإنسانية.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى