مقالات وآراء

د. محمد عماد صابر يكتب : غزة الفاضحة.. حين انهار الجهد الاستخباراتي العربي والصهيوني أمام دهاء المقاومة!!

من طوفان الأقصى إلى طوفان الوعي.. لم يكن ما حدث في الأيام الأخيرة من إعادة حماس سيطرتها الأمنية على ما يزيد عن 85% من التجمعات السكانية في قطاع غزة مجرد عملية تنظيمية أو أمنية عابرة؛ بل يمثل تحولًا استراتيجيًا أشد أثرًا من “طوفان الأقصى” نفسه. فبينما كانت معركة السابع من أكتوبر مواجهة عسكرية كشفت ضعف الكيان الصهيوني ميدانيًا، فإن معركة ما بعد الحرب كشفت عجزه استخباراتيًا، وفضحت المنظومة العربية المتعاونة معه، وأسقطت مشروعًا استمر سنوات لبناء “دولة عملاء” داخل القطاع.

أولًا: الضربة التي لم تكن في الحسبان.

أُسقطت في أيام معدودة منظومة تجسس وتخريب كانت تمتد في أحياء القطاع، تغذيها أجهزة استخبارات عربية وصهيونية، وتغلفها بواجهة مدنية وإنسانية. هذه الشبكات لم تكن مجرد عيون وألسنة، بل كانت جيوشًا صغيرة مُموّلة ومدرّبة لإحداث الفوضى، ونهب الإغاثة، وإثارة الشغب ضد المقاومة.
لكن المفاجأة أن المقاومة سبقت الجميع بخطوة، فبدأت عملية تطهير شاملة ومنظمة، جمعت خلالها ما يُعرف بـ”شبكات الظل”، وصادرت أموالهم وأسلحتهم، وكشفت ارتباطاتهم، واعتقلت رموزًا محلية كانت تُدار عن بُعد من غرف سوداء في عواصم عربية وصهيونية.
إنها ضربة استخباراتية كبرى لا تقل في أثرها عن الضربات العسكرية في الميدان، بل تفوقها من حيث العمق والتأثير المستقبلي.

ثانيًا: الثغرة التي أعمى الله عنها العدو.

الدهاء الاستراتيجي لحماس تجلّى في استثمار “الثغرة القانونية” داخل اتفاق الهدنة المؤقتة حول ملف الجثامين. فالاتفاق لم يحدد مدة قصوى لإعادة الجثامين، ما منح المقاومة مساحة زمنية لإعادة ترتيب البيت الداخلي:

  • القضاء على بؤر العمالة والفوضى.
  • جمع الذخائر غير المنفجرة لإعادة تصنيعها.
  • تعيين محافظين ميدانيين وقادة إداريين.
  • تخزين الإمدادات الإنسانية استعدادًا لأي طارئ.
    وحين حاول الاحتلال الضغط، واجه ردًّا قانونيًا محكمًا من الوسطاء: الاتفاق لا ينص على مدة محددة، فلا خرق هنا. وهكذا تحوّل بند إنساني إلى منصة استراتيجية لإعادة بناء المنظومة الأمنية والسياسية للمقاومة.

ثالثًا: انقلاب المعادلة الشعبية والدولية.

في خضم الفوضى التي تلت الحرب، كان العدو يراهن على أن تنهار القاعدة الشعبية للمقاومة، لكن ما حدث كان العكس تمامًا.
فبسط الأمن، وانخفاض الأسعار، وعودة النظام بعد سنوات من الفوضى، كلها عوامل رفعت شعبية حماس إلى القمة.
الناس رأوا في الحركة اليد القوية التي انتقمت لهم من اللصوص والبلطجية والمتعاونين، فاستعادوا ثقتهم بالمقاومة، وأصبح الأمن في غزة يُذكر مقرونًا باسمها لا باسم الاحتلال.
أما على الصعيد الدولي، فقد واجهت الأطراف الداعمة لإسرائيل ورطة مزدوجة:
لا يوجد مبرر قانوني لاستئناف الحرب، لأن الهدنة قائمة ولم تُخرق.
ولا يوجد مبرر سياسي لإقصاء حماس، فليس عندها مانع ان تسلم الحكم لحكومة تكنوقراط واحتفظت بالسلاح لضبط الأمن، لا لمحاربة الاحتلال.
بذلك دخلت القوى الكبرى، وعلى رأسها واشنطن، في مأزقٍ غير متوقع: كيف يمكن معاقبة حركة التزمت بالاتفاق، وأعادت الأمن، وأدارت مرحلة انتقالية بذكاء وهدوء؟

رابعًا: البعد الشرعي في معركة الوعي والسيادة.

من منظورٍ شرعي، فإن ما حدث يُجسد قوله تعالى:﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [آل عمران: 54].
فالمكر الصهيوني والأجهزة المتعاونة ظنّوا أنهم أحكموا الخطة لإسقاط المقاومة من الداخل، فإذا بقدر الله يجعل من مكرهم سببًا لهزيمتهم.
وهو أيضًا مصداق قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: 38]. لقد دافع الله عن عباده المجاهدين، وردّ عنهم كيد من أراد تشويه صورتهم وتشتيت صفّهم. فالمعركة اليوم ليست عسكرية بقدر ما هي معركة أخلاق وشرعية: من يملك الحق في إدارة الأرض، ومن يستحق أن يكون أمينًا على دماء الشهداء وحقوق الشعب.

خامسًا: التحليل الاستراتيجي للمشهد القادم.

1- الاحتلال فقد السيطرة الميدانية والمعلوماتية، وهو الآن أعزل استخباراتيًا في غزة لأول مرة منذ عام 2007.
2- الدول العربية المتواطئة فقدت أوراقها إذ انكشفت شبكاتها، وأصبح تدخلها مكشوفًا ومرفوضًا شعبيًا.
3- الولايات المتحدة في مأزق سياسي وانتخابي بعد أن وُصِم ترامب بأنه خذل إسرائيل ولم يحمِ “هيبتها”.
4- المقاومة تدخل مرحلة تثبيت الحكم الذكي بدمج الأمن المدني والإداري، وإعداد نخبة تكنوقراطية لإدارة القطاع ضمن رؤية وطنية تمهد لإعادة الإعمار واستقلال القرار الفلسطيني.

سادسًا: الدروس الشرعية والسياسية.

أن النصر ليس فقط بالسلاح، بل بالوعي، والتنظيم، والإخلاص، كما قال صلى الله عليه وسلم: «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» (رواه الترمذي).
وأن من اعتمد على الله نُصر بمعيته، كما قال تعالى: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 249].
وأن الحرب الاستخباراتية أخطر من العسكرية، ومن انتصر فيها حفظ بقاءه لعقود. وأن ضبط الأمن الداخلي فريضة شرعية وضرورة استراتيجية لحماية المجتمع من الانقسام والاختراق.

خاتمة: غزة الفاضحة لا تُهزم.

لقد فشلت مؤامرة “اليوم الأول لوقف إطلاق النار”، وسقطت معها أوهام العواصم التي ظنت أن غزة ستُدار بالمال لا بالإيمان.
غزة اليوم تُعيد تعريف النصر: ليس من يملك الطائرات ينتصر، بل من يملك الإيمان والبصيرة والقدرة على فضح الباطل وكشف الخيانة.
وغدًا حين تكتمل معركة الوعي والتحرير، سيعلم الذين خططوا في الظلام أن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
مايحدث يستعصي علي الفهم إلا من خلال هذه الآية: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)،( العنكبوت 69 ). إنه تدبير يفوق وعي الإنسان كبشر، وهذا ما غفل عنه المسلمون حينما

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى