مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: نعم ….تغيرت

عرفت زمنٍا كان فيه الصراخُ مقباسُ البطولة، والصمتَ ضعفٌ، و التروّي لونٌ من الجُبن، وأنّ من لا يصرخُ في وجه الباطل، فهو شريكُه في الخطيئة.

واليوم، على أعتاب عامي الحادي والستين،(في 5 ديسمبر القادم)

أدركتُ أن الشجاعةَ لا تُقاسُ بدرجةِ الصوت، بل بصفاءِ النبرة، وبوعي الفكرة، وبصدقِ المقصد.

فما أكثر الذين يتكلمون ليُسمَعوا، وما أقلّ الذين يتكلّمون ليُفهَموا.

تعلّمتُ أنّ الوعي لا يُولدُ في لحظةٍ، بل يتكوّن كما تتكوّنُ اللؤلؤةُ في جوفِ الألم.

كلُّ عامٍ يضيفُ إلى الإنسان طبقةً من الفهم، وكلُّ جرحٍ يُهذّبُ الغرور، وكلُّ خيبةٍ تُعيدُ تعريفَ البطولة.

فلم أعد أرى النضجَ تراجعًا، بل ارتقاءً نحو النسخة الأصدق من الذات.

والشجاعةُ، حين تبلغُ الستين، تصيرُ حكمةً تمشي على قدمين.

رأيتُ في رحلتي ما رأى الكبار قبلي:

رأيتُ غاندي يُعلّم العالم أنّ القوةَ الحقيقية في اللّاعنف، ورأيتُ سقراط يحتسي السمّ بابتسامةٍ تُربكُ التاريخ، ورأيتُ طه حسين يُحاورُ الظلامَ بنور الفكر، ورأيتُ نجيب محفوظ يجعلُ من الحارة المصرية معجمًا للخلود، ورأيتُ الشافعيّ يبدّلُ مذهبه لا ضعفًا، بل تواضعًا للعقل.

كلُّهم تغيّروا… لا لأنّهم تردّدوا، بل لأنّهم أدركوا أنّ النضجَ لا ينفي الشجاعة، بل يُعمّقها.

ما عُدتُ أُؤمنُ بالبطولة التي تُصنَع من الغضب ولا بالثورية التي تفتقد الرحمة.

فالوطنُ لا يُبنى على الأنقاض، بل على الحوار، وعلى الإيمان بأنّ الاختلافَ رحمةٌ إذا صدقنا في نوايانا.

إنّ الإصلاح الحقيقيّ لا يبدأ من الميادين، بل من العقول، ولا من السلاح، بل من الفكرة التي لا تُشبه أحدًا، لأنها تُشبه الحقيقة.

السياسة، كما أفهمها اليوم، ليست حلبةً لتصفية الحسابات، بل حوارٌ مستمرّ بين الضمير والمصلحة، بين الحلم الممكن والمبدأ الثابت.

تعلّمتُ أنّ الليبرالية لا تُخاصم الإيمان، بل تُؤمن بالإنسان كغايةٍ للدين والدولة معًا.

وأنّ الحرية ليست أن تقول ما تشاء، بل أن تمتلك وعيًا يحميك من أن تقول ما لا تعني.

تغيّرتُ لأنّ التجربة الطويلة تُعلّمنا أن الغضبَ لا يُصلحُ وطنًا، وأنّ الأوطان تُبنى بالعقلِ البارد أكثر مما تُبنى بالحماس الساخن.

تغيّرتُ لأنّي ما عدتُ أرى في كلّ خصمٍ عدوًّا، ولا في كلّ مهادنةٍ استسلامًا، بل خطوةً واعية نحو الفهم، لا نحو الخوف.

بعد الستين، صرتُ أفهمُ أن الحرية الحقيقية هي أن تكتبَ كما تشعر، لا كما يُريدُ الجمهور أن يسمع.

أُشفِقُ على كثيرٍ من الإعلاميين الذين أضاعتهم الأرقام، فصار همُّهم عددُ المشاهدات، لا عمقُ الرسالة، وضجيجُ اللايكات، لا صدقُ الكلمة.

تغيّر المعيار، فصار الوهجُ أهمّ من الوعي، والإبهارُ أقربَ إلى البهتان.

ولم يعودوا يكتبون ما يؤمنون به، بل ما يُسعِد الخوارزميات، لا الضمائر.

لذلك أقولها بثقة العارف:

من يُريد أن يبقى، فليكتب للزمن لا للترند، وللإنسان لا للجمهور.

فالمشاهداتُ تبهت، لكنّ الكلمةَ الصادقة لا تموت.

ربّ حرفٍ وُلد في الهامش، وظلَّ بعد أن ذهبتِ الصحفُ والعناوينُ جميعًا إلى الغبار.

اليوم، وقبل اسابيع من بداية عامي الأوّل بعد الستين، أبتسمُ للزمن الذي ربّاني بخشونةٍ جميلة، وأُصافحُ الماضي بلا ندم، وأمضي نحو المستقبل بلا ضجيج.

لقد تعلّمتُ أن السكينة ليست ضعفًا، بل أعلى درجات القوة، وأنّ التغيير ليس انقلابًا على الذات، بل توبةٌ فكريةٌ نحو الحقيقة.

نعم، تغيّرتُ…

لكنّ التغيّر ليس نهاية الرحلة، بل بدايتها الجديدة، حيثُ تصيرُ الشجاعةُ فنّ الإصغاء، ويصيرُ النضجُ نوعًا من الحُبّ…

حبٍّ للناس، وللحقيقة، وللحياة التي لا تكفّ عن تعليمنا أنّ الحرفَ الذي يُكتبُ بضمير، هو وحدهُ ما يُبقي الكاتبَ حيًّا، حتّى بعد أن ينامَ القلم

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى