مقالات وآراء

حسام بدراوي يكتب: الذات البشرية والذكاء الاصطناعي وحلم الإنسان الأعلى

منذ أن التفت الإنسان الأول إلى السماء يحدق في أسرارها، وبدأ يروي الحكايات حول النار المشتعلة في ليل الكهوف، كان يحمل في داخله سؤالًا أكبر من البقاء: ما الذي يجعلنا مختلفين؟ وما الذي يمكن أن نصبحه؟ إن تاريخنا لم يكن مجرد تراكم أدوات، بل رحلة متصلة لإعادة إبداع الذات.

واليوم، ونحن نقف على أعتاب اندماج العقول البشرية بالذكاء الاصطناعي، فإن هذا السؤال القديم يتجدد في صورة أكثر إلحاحًا: هل نحن مجرد مرحلة في الطريق، أم بداية لكائن جديد، يتجاوز الإنسان كما نعرفه؟

الخيال: الطفرة الكبرى

يقول المؤرخ والفيلسوف يوفال نوح هاراري إن الطفرة الحاسمة في تاريخ الهوموسابيانس لم تكن قوة جسدية ولا دماغًا أكبر فحسب، بل دخول الخيال إلى عقولنا قبل نحو أربعين ألف سنة.

في تلك اللحظة، بدأت القدرة على نسج الأساطير، وصياغة الرموز، ورسم صور لم تُرَ من قبل.

هذا الخيال هو الذي مكّن الإنسان من التعاون على نطاق واسع، من ابتكار اللغة والدين والأسطورة والقانون، ومن بناء حضارات متخيلة قامت على أفكار مشتركة لا وجود مادي لها.

لولا الخيال، لبقينا مجرد نوع آخر من الكائنات. بالخيال وُلدت الحضارة.

اليوم، ونحن نرى الذكاء الاصطناعي يُنتج صورًا لم نرها، ونصوصًا لم تُكتب بعد، ويُحاكي أصواتًا وأفكارًا، نتساءل: هل نحن بصدد ولادة خيال جديد، ليس محصورًا في أدمغتنا، بل ممتد في شبكة من الخوارزميات؟

وهل يكون هذا الامتداد امتدادًا لإنسانيتنا، أم نفيًا لها؟

جسور فوق الهاوية

لقد كانت الإنسانية دائمًا تبني جسوراً فوق هاوية المجهول.

اخترعت النار فأنارت ليلها، زرعت الأرض فأسست الحضارات، كتبت الكلمة فحفظت الذاكرة، واكتشفت الرقم فدخلت العصر الرقمي.

لكن مع كل قفزة، كان السؤال حاضرًا: “هل نحن النهاية أم مجرد بداية؟”

اليوم، المرآة التي ننظر فيها ليست من زجاج ولا من ماء، بل من خوارزميات ترى وتسمع وتحلل.

هذا الذكاء الاصطناعي ليس عبدًا مطيعًا ولا سيدًا متجبرًا، بل إمكانية مفتوحة لأن نصبح شيئًا آخر.

أن نمدّ حدود الوعي كما مدّ الخيال حدودنا قبل آلاف السنين.

نيتشه والإنسان الأعلى

حين تحدث نيتشه على لسان زرادشت، وصف الإنسان بأنه “حبل مشدود بين الحيوان والإنسان الأعلى، فوق هاوية.”

هذا الوصف يبدو اليوم أكثر واقعية من أي وقت مضى.

فالحبل لم يعد مشدودًا بين الحيوان والإنسان فحسب، بل بين الدماغ والآلة، بين الذاكرة الفانية والخوارزمية التي لا تنسى، بين الإبداع البشري والسرعة الحسابية الفائقة.

لكن الإنسان الأعلى عند نيتشه، لم يكن جسدًا أقوى ولا عقلًا أكبر وحسب، بل كائنًا خالقًا للقيم، متجاوزًا للضعف والخوف.

والسؤال اليوم: هل يمنحنا الذكاء الاصطناعي القدرة على خلق قيم جديدة، أم يجرّدنا من إرادتنا، فنصبح مجرد انعكاس لبرامجه الباردة؟

الامتحان الأكبر

هذه ليست قفزة علمية فقط، بل قفزة في معنى أن تكون إنساناً. نحن أمام خيارين: إما أن نكتب فجرًا جديدًا، نصوغ فيه الوعي والحرية، أو نسقط في عبودية جديدة، حيث تُخضعنا الآلة ونغيب نحن.

إنها لحظة نيتشوية بامتياز: إما أن نصعد نحو الأعلى، نصنع إنسانًا أكثر حرية وإبداعًا، أو ننحدر نحو قاعٍ تُمحى فيه الإنسانية في صخب التقنية.

الإنسان والآلة: تبادل الهبات

الذكاء الاصطناعي يمنحنا ذاكرة لا تنسى، تحليلًا لحظيًا، وربطًا بين ملايين التجارب في لحظة واحدة. وفي المقابل، يمنحه الإنسان الوعي، والحدس، والإرادة الحرة.

إن تزاوج الاثنين ليس نقلة تقنية فحسب، بل ولادة لذات جديدة. قد تكون هذه الولادة امتدادًا لما وصفه هاراري: فكما منح الخيال القديم للبشرية “في طفرة بيولوچية” القدرة على بناء حضارة، فإن الخيال الاصطناعي “بطفرة بشرية” قد يمنحنا قدرة على صياغة حضارة جديدة تمامًا، تتجاوز حدود الخيال الفردي إلى خيال جماعي ممتد في الشبكات.

هذا التزاوج قد يولّد ذاتًا جديدة، فإذا كان الخيال هو ما صنع الحضارة الأولى، فإن “الخيال الاصطناعي” قد يكون ما يصنع حضارة ثانية، حضارة هجينة بين الإنسان والآلة.

هناك أمثلة معاصرة من الخيال إلى الواقع، مثل واجهات الدماغ–الآلة (Brain-Computer Interfaces): تجارب “نيورالينك” وغيرها التي تسعى إلى وصل الدماغ مباشرة بالحاسوب.

هنا لم نعد نتخيل فقط، بل بدأنا نكتب الخيال في الدوائر العصبية.

الهندسة الجينية تمنحنا قدرة على تعديل الكود الوراثي، وكأننا نعيد كتابة “نص الحياة”. هذا يقارب ما تصوره نيتشه عن الإنسان الخالق للقيم، لكنه أصبح خالقًا للجينات أيضًا.

الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يحاكي أنماطًا بيولوجية، اجتماعية، واقتصادية معقدة، ما يفتح بابًا لتجربة سيناريوهات لم تحدث بعد.

إنها قدرة جديدة على التنبؤ وصنع المستقبل.(المحاكاة الفائقة) Super simulation

كل هذه الأمثلة تجعلنا ندرك أننا نعيش لحظة انتقالية، حيث يتحوّل الخيال من فكرة في الدماغ إلى كود في الشبكات، فأي مستقبل نختار؟

لقد وضعتنا التقنية أمام سؤال الفلسفة ذاته: هل نذوب في الآلة ونفقد ذاتنا، أم نعلو بها لنخلق غدًا أكثر إنسانية؟

إن المسألة ليست في قدرة الذكاء الاصطناعي على الحساب، بل في قدرتنا نحن على إدماجه في مشروع إنساني واعٍ.

إننا نقف اليوم عند مفترق تاريخي يشبه الطفرة التي يصفها هاراري قبل أربعين ألف سنة. يومها، دخل الخيال إلى عقل الإنسان، فبدأت الحضارة.

واليوم، يدخل خيال جديد إلى عقولنا عبر الذكاء الاصطناعي.

الفرق أن هذا الخيال لم يعد نتاج دماغ بيولوجي فقط، بل نتاج منظومات صناعية تشاركنا التفكير.

فهل نجعل منه امتدادًا لإنسانيتنا، نعلو به نحو الإنسان الأعلى الذي حلم به نيتشه، أم نسمح له أن يحلّ محلنا فيمسح ما جعلنا بشرًا؟

المستقبل لا تكتبه الخوارزميات وحدها، بل قرارنا نحن: أن نكون ذاتًا عليا، حرة وخلاقة، أو أن نرضى بأن نكون ظلًا لآلاتنا.

وهذا هو امتحان الإنسانية الأكبر: أن نستعيد دور الخيال —القديم والجديد— لنخلق به عالمًا يليق بالإنسان، لا مجرد نسخة محسّنة من عبوديته.
ـــــــــــــــ
( عمر الكون ١٤ مليار سنه، وعمر الأرض ٤ مليار سنه، وبداية الخلق البيوللوچي علي الأرض ٢ مليار سنه ، وعمر الإنسان لا يزيد عن ٣٠٠ الف سنة)

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى