العالم العربيترجمات

تقرير دولي: تصاعد التفاوتات يهدد استقرار المجتمعات.. ومجموعة العشرين تبحث معالجة الأسباب الجذرية لانعدام المساواة

تناولت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في تقرير جديد بعنوان «مجموعة العشرين وتعزيز تكافؤ الفرص: معالجة الأسباب الجذرية لانعدام المساواة والإقصاء والتمييز»، التحديات المتزايدة المرتبطة باتساع الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين فئات المجتمع، معتبرة أن استمرار التفاوتات يشكّل تهديدًا مباشرًا لاستقرار الدول والنظم الديمقراطية حول العالم.

وجاء التقرير تحت إشراف الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد جوزيف ستيغليتز، وبالتنسيق مع رئاسة مجموعة العشرين لعام 2024 التي تتولاها جنوب إفريقيا، مؤكدًا أن مكافحة الفقر والتمييز أصبحت من أولويات المرحلة الجديدة للنمو المستدام في ظل الأزمات المتعاقبة التي تشهدها الاقتصادات العالمية.

التفاوتات الاقتصادية: خطر يتجاوز الفقر إلى زعزعة الاستقرار

أوضح التقرير أن التفاوتات في الدخل والثروة أصبحت أوسع من أي وقت مضى، وأنها لم تعد تقتصر على الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، بل باتت ظاهرة داخلية تمس معظم المجتمعات، بما في ذلك الاقتصادات المتقدمة.

وأشار إلى أن أغنى 10% من سكان العالم يحصلون على نحو 52% من الدخل العالمي ويمتلكون 76% من الثروة الإجمالية، في حين لا تتجاوز حصة نصف سكان العالم الأدنى من الدخل 8.5% فقط، ومن الثروة 2%.

وأكدت المنظمة أن استمرار هذا الخلل البنيوي في توزيع الثروة يهدد العقد الاجتماعي ويضعف الثقة في المؤسسات الديمقراطية، ويغذي الاتجاهات الشعبوية والانقسامات السياسية، محذّرة من أن المجتمعات التي تشهد مستويات مرتفعة من التفاوت الاقتصادي تصبح أكثر هشاشة أمام الأزمات الاجتماعية والسياسية.

كما لفت التقرير إلى أن جائحة «كوفيد–19» ساهمت في تعمّق الفوارق، سواء من خلال فقدان الوظائف أو اضطراب التعليم أو محدودية الحماية الاجتماعية، وهو ما ترك آثارًا طويلة المدى على فرص الجيل الجديد في التعليم والعمل والدخل.

الاقتصاد غير الرسمي: الوجه الخفي لعدم المساواة

خصّص التقرير محورًا كاملاً لمشكلة العمالة غير الرسمية (informality)، مؤكدًا أنها تمثّل أحد أبرز أسباب التفاوت الاقتصادي في الدول النامية والمتوسطة الدخل.

وأشار إلى أن العمال في الاقتصاد غير الرسمي أكثر عرضة للفقر والهشاشة، حيث يفتقرون إلى شبكات الأمان الاجتماعي والرعاية الصحية، ولا يتمتعون بحقوق العمل الأساسية. وفي المقابل، يستفيد العمال الرسميون بمعدل الضعف تقريبًا من نظم الحماية الاجتماعية مقارنة بزملائهم في القطاع غير الرسمي.

وكشف التقرير عن فجوات كبيرة في التغطية الاجتماعية: ففي الدول الإفريقية لا تتجاوز نسبة العاملين غير الرسميين المشمولين بأي نوع من التأمين أو المعاشات 17%، مقابل أكثر من 60% في دول آسيا وأمريكا اللاتينية.

وأوضح أن هذه الظاهرة تعمّق دوائر الفقر وتضعف الإنتاجية وتحد من قدرة الحكومات على تحصيل الضرائب وتمويل الخدمات العامة، مشيرًا إلى أن «كلما زادت معدلات الاقتصاد غير الرسمي، تراجعت قدرة الدولة على إعادة توزيع الثروة بعدالة».

ودعا التقرير إلى تبنّي سياسات وطنية متكاملة لدمج الاقتصاد غير الرسمي، عبر تسهيل التسجيل الضريبي، وتبسيط إجراءات الترخيص، وتوسيع الحماية الاجتماعية لتشمل العاملين المستقلين والعمالة الموسمية، مع التركيز على تمكين النساء في القطاعات غير الرسمية بوصفهن الأكثر تضررًا من غياب الحماية القانونية.

التمييز الجندري: عقبة أمام العدالة والنمو

اعتبر التقرير أن التمييز القائم على النوع الاجتماعي يظل من أبرز العوامل المسببة لانعدام المساواة، وأن النساء في معظم دول العالم ما زلن يتحملن عبء العمل غير المدفوع ويواجهن عقبات قانونية واجتماعية تحد من فرصهن الاقتصادية والسياسية.

وأشار إلى نتائج مؤشر المؤسسات الاجتماعية وعدم المساواة بين الجنسين (SIGI 2023) الصادر عن المنظمة، والذي أظهر أن النساء ما زلن يقمن بعمل غير مدفوع الأجر بمعدل يزيد عن ضعفي الرجال، كما أن واحدة من كل ثلاث نساء تعرّضت لأحد أشكال العنف المنزلي أو التمييز المهني.

وأكد التقرير أن العنف ضد النساء والفتيات لا يقتصر على كونه انتهاكًا لحقوق الإنسان، بل يُعد أيضًا خسارة اقتصادية كبيرة للمجتمعات، إذ يؤدي إلى انخفاض المشاركة في سوق العمل، وتراجع الإنتاجية، وإهدار الطاقات البشرية.

كما بيّن أن القوانين التمييزية لا تزال سارية في 163 دولة، وأن أكثر من 2.4 مليار امرأة حول العالم يُحرمن من حقوق اقتصادية متساوية مع الرجال.

ودعا التقرير إلى إصلاحات تشريعية ومؤسسية عاجلة لإزالة الحواجز القانونية أمام النساء، وتعزيز مشاركة المرأة في صنع القرار الاقتصادي والسياسي، مؤكدًا أن تحقيق المساواة بين الجنسين يمكن أن يرفع الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة تصل إلى 9% بحلول عام 2060.

التعاون الدولي ودور مجموعة العشرين

في ضوء هذه التحديات، دعا التقرير مجموعة العشرين إلى تبنّي مقاربة شاملة لمكافحة انعدام المساواة ترتكز على التعاون بين الحكومات والمنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني.

وأوضح أن مكافحة الفقر والتفاوت تتطلب إصلاحات ضريبية عادلة وتدريجية، وزيادة الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية، وتوسيع نطاق الحماية الاجتماعية لتشمل جميع الفئات، ولا سيما العمالة غير الرسمية والنساء.

كما شدد على أهمية التعاون الدولي في مجال الضرائب ومكافحة التهرب الضريبي، وتعزيز مبادئ العدالة المالية لضمان تمويل مستدام للسياسات الاجتماعية.

وأشار التقرير إلى أن وزراء التنمية في مجموعة العشرين، خلال اجتماعهم في ريو دي جانيرو عام 2024، اتفقوا على أولوية خفض الفوارق بين الفئات الاجتماعية والاقتصادية ضمن تنفيذ أهداف التنمية المستدامة (SDG 10)، وعلى ضرورة «ترك أحد خلف الركب» عبر سياسات موجهة نحو الفئات الأكثر هشاشة.

وأكد الوزراء أن معالجة انعدام المساواة ليست مسألة إنسانية فحسب، بل شرط أساسي للنمو الاقتصادي المستدام، داعين إلى سياسات شاملة تراعي الفوارق بين الأجيال وتضمن الوصول العادل إلى الخدمات العامة.

التعليم والضرائب والحماية الاجتماعية: مفاتيح الإصلاح

خلص التقرير إلى أن تقليص التفاوتات يتطلب حزمة متكاملة من السياسات تشمل:

  • الاستثمار في التعليم والتدريب مدى الحياة لتحسين فرص العمل.
  • تطوير أسواق العمل وتعزيز الإنتاجية.
  • تبنّي نظم ضريبية تصاعدية تعيد توزيع الدخل بعدالة.
  • دعم الحماية الاجتماعية الشاملة والمستدامة.

كما دعا إلى بناء تحالف دولي لتعزيز البيانات حول الفقر وعدم المساواة، معتبرًا أن غياب الإحصاءات الدقيقة يعرقل صياغة السياسات الفعالة.

وشدد على أن تحقيق العدالة في الفرص لا يمكن أن يتم من دون تحوّل ثقافي واجتماعي طويل الأمد يغير القيم والممارسات المكرّسة للتمييز والإقصاء، مع ضرورة إشراك الرجال والشباب في جهود المساواة والمواطنة الاقتصادية الشاملة.

رؤية ختامية: نحو عقد اجتماعي عالمي جديد

يختتم تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بالتأكيد على أن العالم يقف أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن تواصل المجتمعات مسارها نحو مزيد من التفاوتات والاستقطاب، أو أن تبدأ ببناء عقد اجتماعي عالمي جديد يقوم على العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.

ويعتبر التقرير أن مجموعة العشرين تمتلك موقعًا محوريًا في هذا التحول، كونها تضم 80% من الناتج الاقتصادي العالمي وثلثي سكان الكوكب، ما يجعلها مسؤولة أخلاقيًا وسياسيًا عن قيادة الجهود نحو اقتصاد أكثر شمولًا وإنصافًا.واختتم بالقول إن “تحقيق المساواة لم يعد خيارًا سياسيًا أو رفاهية فكرية، بل ضرورة اقتصادية وأمنية لضمان استقرار العالم”، داعيًا إلى أن تكون العدالة الاجتماعية ركيزة أساسية للنمو العالمي في العقد المقبل.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى