
كنتُ وما زلتُ أرى أن الدخول في معارك وهميّة بين مصريين وسعوديين — سواء أشعلتها لجان إلكترونية أو أصواتٌ متهوّرة من هنا أو هناك — هو عبث لا يليق بالعقل، ولا بالحكمة التي ينبغي أن تسود بين شعبين شقيقين.
لكن حين يتحوّل العبث إلى مساسٍ بالهوية والتراب، فالصمت يصبح جريمة، والهدوء يتحوّل إلى تواطؤ.
قرأت اليوم منشورًا على أحد الحسابات الموثقة بعنوان “سعودية سيناء”. ظاهره الجغرافيا، وباطنه السياسة، وغايته — على ما يبدو — إشعال فتيل فتنة لا يستفيد منها سوى أعداء البلدين.
لذلك وجب الردّ، لا بصرخة غضب، بل بلسان القانون والتاريخ والحقائق التي لا تعرف الانفعال.
أولًا – حدود مرسومة بالمداد والدم:
الحدّ الشرقي لسيناء لم يُرسم بالأهواء، بل بالوثائق.
في الأول من أكتوبر عام 1906، وُقّع الاتفاق المصري-العثماني الشهير بين رفح وطابا، ليصبح خطًّا إداريًا يحدّد تخوم مصر من الشرق.
ومع مرور الزمن، وبقيام الدول الحديثة، صار هذا الخط حدًّا دوليًا ثابتًا ومعترفًا به في الأمم المتحدة.
ليس خيالًا ولا اجتهادًا، بل حقيقة أرّختها الخرائط ووقّعتها الدول.
ثانيًا – سيادة معترف بها دوليًا ومُكرّسة باتفاقات السلام:
حين وُقّعت معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في 26 مارس 1979، نصّت بوضوح على انسحاب إسرائيل الكامل من سيناء، وعودة السيادة المصرية عليها دون قيد أو شرط.
واكتمل هذا الانسحاب في عام 1982، تحت أعين العالم، وبشهادة الأمم المتحدة.
إنها واحدة من أكثر الوقائع توثيقًا في التاريخ الحديث، لا تحتمل الجدل ولا التأويل.
ثالثًا – التحكيم الدولي في طابا: حين نطقت العدالة باسم مصر:
حين نشب الخلاف حول نقطة “طابا”، لم ترفع مصر السلاح، بل رفعت القانون.
وفي 29 سبتمبر 1988، أصدر التحكيم الدولي حكمه التاريخي لصالح مصر، مؤكدًا أن خط 1906 هو الحدّ الصحيح والنهائي.
وعادت طابا إلى حضن الوطن عام 1989 في مشهد يفيض بالكرامة والسيادة.
منذ تلك اللحظة، لم تبقِ وثيقة أو خريطة مجالًا للشك في أن سيناء بكاملها أرض مصرية، بحدودها وأوديتها وجبالها ورمالها.
رابعًا – الدستور المصري أغلق الباب نهائيًا:
ينصّ الدستور المصري في مادته الأولى على أن الدولة موحّدة لا تتجزأ، ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ من إقليمها.
ويُلزم المادة 236 الدولة بخطة تنمية شاملة لسيناء باعتبارها منطقة حدودية ذات أولوية وطنية.
أي محاولة لتجاوز هذا النص ليست فقط باطلة، بل عدوانٌ على الدستور ذاته، الذي هو العقد المقدّس بين الدولة وشعبها.
خامسًا – اتفاق تيران وصنافير: بحر لا برّ:
الاتفاق المصري-السعودي في 8 أبريل 2016 لم يتجاوز ترسيم الحدود البحرية في البحر الأحمر.
يتعلق بجزيرتي تيران وصنافير، ولم يقترب لا من سيناء ولا من شبرٍ واحدٍ من أراضيها البرّية.
والمملكة العربية السعودية، رسميًا، لم تُقدّم يومًا أي ادّعاء يتعلق بملكية سيناء، لا في وثيقة ولا في تصريح.
أما من يمدّ هذا الاتفاق إلى سيناء، فهو إما جاهل أو مضلِّل، وكلاهما خطر على الحقيقة والوحدة معًا.
سادسًا – الأصول القبلية لا تصنع السيادة:
صحيح أن كثيرًا من قبائل سيناء تعود بجذورها إلى عمق الجزيرة العربية: الترابين، والسواركة، والعيايدة، وغيرهم.
لكن القانون الدولي لا يمنح السيادة بالأنساب، بل بالحدود المعترف بها.
الدم العربي واحد، والهوية واحدة، لكن الانتماء الوطني يُحدَّد بخريطةٍ رسمها التاريخ ووقّعتها الدول، لا بخيالٍ بدويٍّ أو عاطفةٍ قبلية.
وجود تشابهٍ في اللهجة أو العادات لا يجعل الأرض تنتقل من دولةٍ إلى أخرى، وإلا لما بقيت حدود في هذا الشرق الممتدّ.
سابعًا – سيناء في الوعي الجمعي والتاريخ المصري:
منذ عهد الفرعون رمسيس الثاني، كانت سيناء درع مصر الشرقي.
وعلى أرضها دارت معارك العريش ورفح والقنطرة والسويس، وكانت بوابة الخروج والدخول في كل الغزوات، من الهكسوس إلى أكتوبر 1973.
هي التي حملت صليب الأنبياء، وسجّلت على رمالها خطى موسى، واحتضنت دماء المصريين في حروب لا تُحصى. أيمكن بعد ذلك أن تُسحب منها مصريتها بكلمة على “فيسبوك”؟
ثامنًا – حين يصبح الوهم وقودًا للفتنة:
هذه المنشورات التي تزعم “سعودية سيناء” ليست آراء بريئة، بل ألغام رقمية تُزرع في وعي الشعوب لتفجيرها من الداخل.
من يروّجها لا يريد الحقيقة، بل الاصطدام.
من ينشرها لا يبني جسرًا، بل جدارًا من الشكّ بين القاهرة والرياض.
ولو تُركت هذه النار، فلن تحرق خريطة فحسب، بل قد تحرق الودّ بين شعبين اختلط دمهما في ميادين الدفاع عن العروبة والإسلام.
تاسعًا – الحكمة تقتضي إطفاء النار لا النفخ فيها:
أنا على يقين أن القيادة السعودية العاقلة، كما القيادة المصرية الواعية، تدرك أن هذه الحملات الممنهجة لا تعبّر عن الشعبين، بل تستهدفهما معًا.
ومن الحكمة أن نردّ بالعقل لا بالانفعال، وأن نحتكم إلى الوثائق لا إلى العواطف.
وأقترح — هنا — مبادرة ثقافية مشتركة بين البلدين، تُقام فيها ندوة توثيقية يُعرض فيها تاريخ الحدود والخرائط والمعاهدات، لتُغلق هذه الصفحة بالعلم لا بالصراخ.
عاشرًا – ما بين الجغرافيا والهوية:
سيناء ليست مجرد قطعة أرض، بل ذاكرة وطن.
هي الجسر الذي عبرت عليه الأنبياء، ووقف عليه الجنود المصريون يحمون مدخل التاريخ.
من يتحدث عن “إعادة” سيناء إلى أحد، كأنه يتحدث عن “اقتلاع” مصر من نفسها.
وما بين الجغرافيا والهوية تظل سيناء قَلبَ مصر العربي النابض، لا قابلة للبيع، ولا للمساومة، ولا للمزايدة.
نعم، نرفض المعارك الوهمية، ونكره الإساءة لأي دولة أو شعب. لكننا لا نقبل أن تتحول الحكمة إلى ضعف، ولا الصمت إلى تنازل. سيناء مصرية بقرار التاريخ، وباعتراف العالم، وبدماء المصريين الذين ارتوَت أرضها بهم.
وإذا كان بعض الجهلاء يعبثون بالخرائط على الشاشات، فإن في مصر رجالًا ونساءً يكتبون الحقيقة في سجلّ الخلود.







