مقالات وآراء

د. عدنان منصور يكتب : لبنان والرهان ـ الوهم على المجتمع الدولي!

في الآونة الأخيرة دعا أكثر من مسؤول لبناني، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية جوزاف عون، المجتمع الدولي للضغط على “إسرائيل” للانسحاب من الأراضي اللبنانيّة التي احتلتها. هنا لا بدّ من التساؤل حول هذا المجتمع الدولي الذي يعوّل المسؤولون في لبنان، ويعلّقون الآمال عليه، لحمل “إسرائيل” على احترام ميثاق الأمم المتحدة، والالتزام بالقرارات الدوليّة، والاتفاقات ذات الصلة بلبنان ودولة الاحتلال “الإسرائيلية”.

بعد أن هيمنت الولايات المتحدة على المجتمع الدولي، وتحكّمت بعدد كبير من دول العالم، واختزلت قرارها السيادي، وصادرت إرادتها الحرة، وحجّمت دورها، استطاعت أن تحوّل المجتمع الدولي إلى حائط مبكى للدول الصغيرة والمتوسطة، وتجعل بعض الدول الوازنة في وضع لا تُحسَد عليه، لجهة تكبيل سياستها المستقلة، وقرارها السيادي الحر.

في صراعنا مع “إسرائيل”، واحتلالها أراضي لبنانية، نتساءل أيضاً: أين هو دور المجتمع الدولي والأمم المتحدة ومسؤوليتهما، وأين دور الاتحاد الأوروبي، والمنظمات الدولية العديدة على الساحة العالميّة؟! أين الجهة الدولية التي تستطيع ـ غير الولايات المتحدة ـ لجم “إسرائيل”، وإجبارها على الالتزام بالقوانين الدوليّة، واحترام الاتفاقات ذات الصلة؟!

هل هناك في هذا العالم غير الولايات المتحدة مَن يقف بالمطلق، دون وجه حق، إلى جانب “إسرائيل”، ويدعمها بكلّ قوة دون تحفّظ، سياسياً ودبلوماسياً، وعسكرياً، وإعلامياً، ومالياً، وأكثر من كلّ ذلك، الذهاب معها بعيداً في خرقها للاتفاقات والقوانين الدولية، وما تقوم به من اعتداءات يوميّة على لبنان، وعلى مرأى من مبعوثيها، دون أن يصدر عنهم إشارة إيجابيّة واحدة تدعو “إسرائيل” لوقف إطلاق النار، والتوقف عن اعتداءاتها!

مشكلة لبنان ليست مع المجتمع الدولي، وإنما مع الإمبراطورية الأميركية التي روّضت هذا المجتمع الأمميّ، وصادرت قراره، وجعلت نفسها الآمر الناهي في التعاطي مع الأحداث العالميّة، ومع الدول التي لا تتماشى مع مصالحها السياسية والاقتصادية، والأمنية والاستراتيجية.

معاناة لبنان، كما العديد من دول العالم، هي مع الولايات المتحدة واستبدادها وجبروتها، وتعسّفها. عندما يقف المجتمع الدوليّ ممثلاً بدوله في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحينما تعتمد الجمعية العامة للمرة الـ33 قراراً يدعو لإنهاء الحصار الأميركي على كوبا بتأييد 165 دولة من أصل 193، نجد الولايات المتحدة تصوّت ضدّ القرار، وترفض تطبيقه متحدية العالم بأسره، غير مكترثة بالمجتمع الدولي برمّته.

كم هو ملتبس وهشّ مفهوم المجتمع الدولي، عندما تتحكّم به دولة عظمى، تهمّشه، وتشلّ قراره، وتجعله غير قابل للتطبيق إنْ لم يحظَ بموافقتها ورضاها.

ما الذي فعله المجتمع الدولي عندما اعترضت واشنطن على قرار الجمعيّة العامة التي اعترفت بدولة فلسطين، كدولة ذات سيادة، من قبل 142 دولة من أصل 193، والذي جاء بعد إعلان نيويورك في شهر تموز/ يوليو 2025 الذي دعا إلى حلّ الدولتين؟

ما الذي يستطيع أن يفعله المجتمع الدولي لتنفيذ القرار الأممي، طالما أنّ قرار الجمعية العامة هذا، لن يبصر النور داخل مجلس الأمن، لأن الفيتو الأميركيّ سيكون حاضراً، وإنْ وقف العالم كله مع قرار الجمعية العامة!؟

أين دور المجتمع الدولي من دور الولايات المتحدة؟!
وأين تأثيره في تطبيق القرارات والقوانين الدولية، من تأثير أميركا؟! هل المجتمع الدولي منع قيام الولايات المتحدة و”إسرائيل” بعدوانهما على إيران؟! هل المجتمع الدولي أوقف المجازر والإبادة الجماعيّة على غزة، أو أوقف الاعتداءات اليومية على لبنان، وأنهى الحرب في أوكرانيا؟!

المجتمع الدولي في وضعه الحاضر لا يُحسَد عليه، يشاهد الأحداث والتطوّرات على المسرح العالمي، حيث تؤدي الأدوار الرئيسة عليه ثلاث دول، على رأسها دولة واحدة غير مقيّدة، تصول وتجول باستبدادها في هذا العالم، تقرّر، تأمر، تعاقب، تحاصر دولاً، تفكّك أنظمة، تهدّد زعماء، وتطيح برؤساء.

من موقع القوة والهيمنة والعنجهيّة، ومصالحها الاقتصاديّة، والاستراتيجيّة، تتعاطى الولايات المتحدة مع دول العالم، ومع المجتمع الدولي، ترسّخ وجودها وقوّتها فيه، وتعزّز مقولة رؤسائها: “أميركا أولاً”.

ما الذي ينتظره لبنان من المجتمع الدولي لمساعدته على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحرير أرضه، وهناك الولايات المتحدة التي تقف بالمرصاد في وجه هذا المجتمع، وترفع في وجهه البطاقة الحمراء وتقول له: الكلمة لي، والقرار لي، والحلّ بيدي متى أردت ومتى شئت!

لا عجب بعد ذلك، أن يأتي المبعوثون والموفدون الأميركيّون إلى لبنان، ليتصرّفوا خارج الأعراف واللياقات، مستخفين بالدولة والمسؤولين، حتى وصل الأمر بالمبعوث الأميركي للشرق الأوسط توم برّاك، ليصف لبنان في مؤتمر صحافي بالدولة الفاشلة، دون أيّ لباقة منه، أو الأخذ بالاعتبار الأصول الدبلوماسية، والأخلاقية، وأيضاً طبيعة وحساسية المهمة الموكولة إليه.

لا يكتفي برّاك بهذا القدر من الإساءة إلى لبنان، بل أراد أن يتجاوز حدوده “ليرشد” رئيس الجمهورية إلى ما يجب أن يفعله ويقول “إنّ على عون الاتصال بنتنياهو للاتفاق على التخلّص من كلّ الرواسب”!

هل يجرؤ توم برّاك على توجيه انتقاد واحد لـ “إسرائيل” إزاء كلّ ما فعلته، ولا تزال تفعله في لبنان من اعتداءات متواصلة، منتهكة اتفاق وقف إطلاق النار الذي تمّ التوصل إليه يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024؟!

لم يكن برّاك ليتمادى في تصريحاته المقززة، ومطالبته رئيس الجمهورية التواصل مباشرة مع نتنياهو، لولا أنه يعرف جيداً كيف أنّ وسائل إعلام مرئية ومكتوبة، ومواقف مسؤولين وسياسيين، وإعلاميين وكتاب، وأكاديميين يتناغمون وللأسف مع توجّهات برّاك، ويندفعون باتجاه “إسرائيل” ضاربين بعرض الحائط القوانين اللبنانية ذات الصلة بـ “إسرائيل”.

نتساءل اليوم: هل فعلاً تريد الولايات المتحدة حلاً عادلاً للصراع مع “إسرائيل”، وتحقيق السلام، وانسحاب جيشها من لبنان، أم أنها تريد تجريد لبنان بالكامل من قوته العسكرية المتواضعة، ومن قراره السياديّ، ووضعه لاحقاً في دائرة النفوذ الأميركية ـ “الإسرائيلية”؟!

توم برّاك الموفد الأميركي “الوسيط الحيادي النزيه”، اللبناني “الحريص” على لبنان، دعا المسؤولين “إلى الدخول في مفاوضات مباشرة مع “إسرائيل”، على أن يكون الحوار مع “إسرائيل” فقط، وهي مستعدّة لذلك”.

من اللافت، أنّه مع دعوة برّاك للمفاوضات المباشرة، تزامن معها تكثيف “إسرائيل” لغاراتها الجويّة على لبنان، كرسالة وضغط منها على المسؤولين اللبنانيين، للأخذ “بنصيحة” برّاك، والعمل بموجبها.

المفاوضات التي اعتبرها رئيس الجمهورية جوزاف عون من حيث المبدأ “خياراً وطنياً لبنانياً جامعاً”، تريدها “إسرائيل” مفاوضات مباشرة معها، لتكون بمثابة إقرار لبنانيّ رسميّ مسبق بدولة “إسرائيل”، وبمعزل عن نتائج المفاوضات المستقبليّة، سلباً كانت أم إيجاباً.

“إسرائيل” تريد الذهاب إلى النهاية في عدوانها، لتحقيق أهدافها في احتواء لبنان، وتجريده من قدراته العسكرية الدفاعية، أكان ذلك عن طريق المفاوضات أو الحرب، ما دامت الولايات المتحدة تعطي الضوء الأخضر لتل أبيب، أن تفعل ما تراه لمصالحها الأمنية بالدرجة الأولى، وإنْ تطلّب ذلك اللجوء مجدّداً إلى حرب تدميرية واسعة النطاق.

“إسرائيل” تريد الأمن قبل السلام، إذ عن طريق الأمن تفرض سلام الأمر الواقع الذي يعزّز ويضمن مصالحها، وهيمنتها على المنطقة.

قالها نتنياهو جهاراً: “في الشرق الأوسط، يتقدّم الأمن على السلام”!
أيّ أمن، وأيّ سلام تريده “إسرائيل” والولايات المتحدة من مفاوضات لبنان مع دولة الاحتلال، وما هي الضمانات الأكيدة التي ستصون سيادة لبنان وأمنه القومي، وتنهي الاحتلال الإسرائيلي عن كامل أراضيه؟!

الأسابيع المقبلة حبلى بالمفاجآت، والأحداث الساخنة، ولننتظر، لكن الرهان الأول يعتمد على الموقف الوطني اللبناني الجامع والموحّد، فهو المعيار وهو الأساس في الدفاع عن وجود لبنان ووحدة شعبه.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى