مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: ردا علي عبد الرحمن الراشد.. النظامُ الإقليميُّ أوهامِ القيادةِ وحقائقِ التاريخ


لم تعرف هذه المنطقة عبر تاريخها المديد أيةُ لحظةٍ أشدَّ التباسًا من لحظتها الراهنة. تختلطُ فيها خرائطُ القوةِ بالظلال، وتتبدَّلُ فيها الموازينُ كما تتبدّلُ الفصول.
ومع كلّ خريفٍ سياسيٍّ جديدٍ، يخرجُ علينا من يُبشِّرُ بولادةِ نظامٍ إقليميٍّ جديدٍ، كأنّ المنطقةَ رحمٌ لا يهدأ، يُنجبُ كلَّ عقدٍ جنينًا هجينًا، لا هو عربيٌّ ولا هو أمريكيٌّ ولا هو من صُلبِ هذه الأرضِ التي خُلقت من نارٍ وماءٍ ودمٍ وذاكرة.

قرأتُ دراسةَ معهد FPRI، كما قرأتُ تعليقَ الأستاذ الكاتب الكبير عبد الرحمن الراشد الذي تبنّاها بغيرِ رؤية نقدية او مراجعةٍ، فوجدتُني أمامَ لوحةٍ تُرسمُ بالألوانِ الأمريكية، وتُعْلَّقُ على جدارٍ عربيٍّ نحبه ونحترمه.
فالمعادلةُ التي تقترحُها واشنطن—مثلثُ إسرائيل، تركيا، والخليج—ليست نظامًا بقدرِ ما هي حيلةُ فراغٍ إستراتيجيٍّ تريدُ أمريكا أن تملأهُ بالآخرين، كي تغيبَ هي دون أن تغيبَ مصالحُها.
لكنَّ المأساةَ ليست في الحيلة، بل في أن نُصفِّقَ لها ونحنُ الغائبون عن المثلثِ الذي لا يقومُ إلّا بنا.

من الغريبِ أن يغيبَ الركنُ المصريُّ عن هذه الهندسة، كأنّ التاريخَ يمكنُ أن يُكتبَ من غيرِ ضوءِ القاهرة، وكأنّ المتوسطَ يمكنُ أن يُبحرَ بلا ضفّتهِ الجنوبية.
مصرُ—التي كانت وما زالت ميزانَ الشرق—لا تُختصرُ في أزمةِ اقتصادٍ أو خفوتِ صوتٍ مؤقت؛ هي ذاكرةُ العربِ وإبرةُ البوصلةِ حينَ تضيعُ الجهات.
وحين يظنُّ البعضُ أنّ باستطاعتهم بناءَ نظامٍ إقليميٍّ من دونها، فإنهم لا يبتكرونَ نظامًا، بل يُعيدونَ إنتاجَ خللٍ قديمٍ بأسماءٍ جديدة.

أما إيران، فليستْ ظلًّا يُمحى من على الجدار، بل جغرافيا عميقةُ الجذور، حاضرةٌ بقدرِ ما هي مُقلقة، خصمٌ لا يمكنُ شطبه، وشريكٌ محتملٌ إذا تبدّلَ منطقُ الغلبةِ إلى منطقِ التوازن.
وأمّا تركيا، فهي من هذه الأرضِ بقدرِ ما هي بوابةُ آسيا، قوةٌ أطلّتْ على التاريخ من جهةِ الشرق، وحملتْ في يدٍ سيفَها وفي الأخرى كتابَها، تحاولُ أن توازنَ بين طموحٍ مشروعٍ وميراثٍ مثقلٍ بتجاربِ السلطنة وأنينِ الخسارات.
إنّ وجودَ تركيا في المعادلةِ الجديدة ليس منّةً من أحد، بل استحقاقٌ حضاريٌّ وسياسيٌّ واقتصاديّ، ينبغي التعاملُ معهُ بوعيٍ، لا بشكٍّ ولا بعُقدةِ تفوّقٍ أو وصاية.

ما يروّجهُ بعضُ الكتّاب من أنّ النظامَ الجديدَ ينهضُ على “قوى ثلاث بعد خروج إيران”، ليس تحليلًا بقدرِ ما هو رغبةٌ تتنكرُ في ثوبِ الواقع.
فالمنطقةُ لم تخرجْ يومًا من ثالوثِها التاريخيّ: القاهرةُ—أنقرةُ—طهران، وما عداهمُ أدوارٌ فرعيةٌ مهما تضخّمتْ.
ولن تكونَ مصلحةُ هذه الأمةِ في تفتيتِ المفتَّت، ولا في إعادةِ زرعِ النعراتِ بينَ عروبةٍ وأعجميّةٍ أو بينَ وادي النيلِ ونجدٍ والأناضول.
فالعقلُ السياسيُّ الرشيدُ لا يُقيمُ مجدهُ على أنقاضِ جاره، ولا يبني استقرارهُ على قلقِ شقيقهِ.

إنّ ما تحتاجُهُ المنطقةُ ليس مثلثًا جديدًا، بل ضميرًا جديدًا، يُدركُ أن الأمنَ لا يُصنعُ بالتحالفاتِ المؤقتة، ولا تُبنى الشرعيةُ على الدمِ المسفوكِ في غزّة أو السويداء أو صنعاء.
تحتاجُ الأمةُ إلى عقدٍ أخلاقيٍّ قبلَ أن تُوقّعَ أيّ اتفاقٍ سياسيّ، إلى أن تعودَ البوصلةُ إلى الإنسان، لا إلى السلاح، وإلى الوعي، لا إلى الخوف.

والحقُّ أنني لا أُخاصمُ أحدًا حين أقولُ: لسنا في سباقِ قيادةٍ بين الرياضِ والقاهرةِ وأنقرة، بل في اختبارِ نجاةٍ مشترك. من يتوهَّمُ أن الزعامةَ تُنتزعُ من الآخرِ فقد خسرَ نفسهُ والآخرَ معًا.


ومن يتذكّرُ قولَ الإمامِ عليٍّ رضي الله عنه: “الناسُ أعداءُ ما جهلوا”، يفهمُ أنّ الجهلَ هو العدوُّ الأكبر، لا الشقيقُ الذي يختلفُ معنا في الطريقِ إلى الهدفِ ذاته.

لذلك، وجبَ أن نردَّ على كلّ دعوةٍ للفرقة بكلمةِ وحدة، وعلى كلّ من يُغري بالمنافسة المريضة بصوتِ العقل.
ولْتكنْ القاهرةُ وأنقرةُ والرياضُ مثلثًا آخر—مثلثَ وعيٍ لا غلبة، ومثلثَ بناءٍ لا تحريض، ومثلثَ أملٍ يليقُ بأمّةٍ عرفت كيف تُهزمُ ألفَ مرةٍ ثمّ تنهضُ وهيَ تبتسم.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى