مقالات وآراء

د.تامر المغازي يكتب: بين شاطئين ذكريات لا تغيب.. من نهر النيل إلى “نيومااس”

في صمت الليالي الهولندية، حيث لا يُسمع سوى حفيف أوراق الأشجار وهمس نهر “النيومااس”، تطفو إلى السطح ذكرياتٌ لا تطلب إذناً للقدوم.

إنها شظايا من عمر مضى، تُقارع غربتي بشريطٍ من الذكريات، يمتد من ضفاف النيل في المعادي إلى هذه الضفة البعيدة في روتردام.

النيل حيث كانت أعيش في المعادي، لم يكن النيل مجرد نهر، بل كان رفيق الشباب .

كانت مياهه البنية الهادئة مرآةً لعالمنا الصغير.

هناك، على الكورنيش، تشكلت أولى أحلامنا.

كنا نجلس نحن، مجموعة شبان طموحين، نتشارك أفكاراً كبيرة عن المستقبل كما نشارك كوب الشاي الساخن.

كانت رائحة المسكيت والياسمين تملأ الهواء، وصوت أذان المغرب من مسجد الحي ينساب مع نسيم النهر، ليخلط الأرض بالسماء.

كان النيل مدرستي الأولى في فهم الحياة.

علمتني جلسات الغروب على شاطئه مع اصدقائي الذين كانوا أكبر مني بالعمر والخبرة معنى الحكمة والصبر.

وعلمتني سباحاتنا الصيفية في مياهه الجريئة أن القوة تكمن في الهدوء، وأن التيار الخفي هو الأقوى.

كانت كل قطرة من ماء النيل تحمل قصة، وكل موجة تهمس بأغنية عن الوطن. ثم جاءت الغربة، كقطع ذلك الحبل السري الذي يربطني بالنهر.

في البداية، كان الشعور بالاغتراب مراً افتقدت ذلك الحضن المائي الدافئ. افتقدت الضجيج الحميم للحياة على ضفافه.

في المدن الجديدة، بدت الأنهار مجرد معالم سياحية، أو ممرات مائية باردة، تخلو من الروح التي ألفتها.

حتى جاء اليوم الذي وقفت فيه لأول مرة على ضفة نهر “النيومااس” في روتردام.

نظرت إلى تلك المياه الزرقاء الرمادية، إلى السفن العملاقة الصامتة، والجسور الحديثة التي تنتصب كعملاق فولاذي.

شعرت بالغربة تتضاعف. “كيف لهذا النهر أن يفهمني؟” تساءلت.

إنه نهر التجارة والصناعة، نهر العقلانية الأوروبية الباردة، وليس نهر الأحاسيس والذكريات. لكن الغربة تُعلمك فن الاستماع إلى الصمت.

ومع مرور الأيام، بدأت أسمع همسات “النيومااس” الخاصة. رأيت انعكاس أضواء المدينة ليلاً على صفحته، فذكرتني بانعكاس أنوار القاهرة على النيل، وإن كان لكل منهما جمال مختلف.

رأيت العائلات تمشي على ضفافه، والعشاق يجلسون على مقاعده، والأطفال يلعبون.

في هذه اللحظات الإنسانية، وجدت القاسم المشترك. اكتشفت أن الأنهار، رغم اختلاف أسمائها وألوان مائها، تتحدث لغة واحدة لغة الجريان المستمر، لغة العطاء، لغة كونها شاهداً على قصص البشر.

النيل شاهد على تاريخ أمة، و”النيومااس” شاهد على نهضة مدينة من رماد الحرب.

كلاهما يحمل في تياره أسرار من عاشوا على ضفافه.

اليوم، أجلس على ضفة “النيومااس”، وأسمع في خرير مائه صدىً بعيداً لخرير النيل.

لم يعد النهران منفصلين في وجداني، بل أصبحا طرفي حوار دائم في نفسي. النيل هو الجذر العميق، والذاكرة الدافئة. و”النيومااس” هو الفرع الممتد، والواقع الجديد الذي تعلمت أن أتأقلم معه.

ها هو النيل يجري في عروقي، و”النيومااس” يجري أمام عيني. وها أنا، بين الشاطئين، أجد نفسي. ليست الغربة نسياناً للوطن، بل هي إعادة اكتشاف له في كل مكان.

وليست الذكريات هروباً من الحاضر، بل هي الجسر الذي نعبر عليه لنبقى، على الدوام، أبناء النيل، أينما حلت بنا الأنهار.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى