شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: الإصغاء الحنون


موهبة نادرة في الحياة، اسمها الإصغاء الحنون. ليس الإصغاء الذي ينتظر دوره ليتكلم، ولا الإصغاء الذي يزن كلماتك بميزان المصلحة، بل الإصغاء الذي يضع قلبه في يدك ويقول لك: تفضل… اكمل حديثك، فأنا معك، لا عليك.
حين تجد هذا النوع من الإصغاء،
تشعر أن الوطن — الذي نحمله في صدورنا —
اقترب قليلًا من مقعدٍ صغيرٍ داخل قلبك،
كأنما يختبر نبضه ليستقر فيه.
يحدث أن تتكلم بصدق،
فيصمت من أمامك صمتَ العارف لا صمت الغائب،
ويُصغي إليك كأنه يسمع نفسه في صوتك.
لا يشرد، لا يسبقك، لا يطارد الكلام بما سيقوله بعدك،
بل يترك لك مساحة تتنفس فيها حتى آخر الصعداء.
حين يحدث ذلك…
تشعر أن الوطن يقترب أكثر،
ويجلس على حافة قلبك مطمئنًا أن أحدًا ما
لا يزال يفهمه دون أن يطالبه بالدفاع عن نفسه.

يحدث أن يضع الآخر عينه في عينك
لا ليكشف ضعفك، بل ليحتضنه.
لا ليمتحنك، بل ليطمئن عليك.
لا ليحاكم جرحك، بل ليلمسه بلطفٍ يشبه الدعاء.
حين يحدث ذلك…
تشعر أن الوطن ليس خارطة،
بل رفيق قديم يربّت على كتفك،
ويقول لك دون كلام: أنا معك… لا تخف.
وفي تلك اللحظة يقترب الوطن من عمق القلب،
كما يقترب طفل من صدر أمّه.

يحدث أن تفتح قلبك
فيجد من أمامك مكانًا له دون ازدحام،
فيتعامل مع مشاعرك كما يتعامل الناس مع أثرٍ ثمين:
بلطفٍ، واحترامٍ، وخشية أن يُصاب بخدش.
حين يحدث ذلك…
تشعر أن الوطن ليس فكرة عليا بعيدة،
بل دفء يسري في دمك،
وصحبة صامتة تمشي إلى جوارك
حتى لو لم تكن تملك أن تراها بعينيك.

يحدث أن تسمع كلمة صادقة
في زمنٍ امتدّت فيه الظلال،
فتعرف أن الحقيقة ما زالت قادرة على البقاء،
وأن الصدق ما زال يرفع رأسه ولو انحنى كل شيء من حوله.
وفي تلك اللحظة…
تشعر أن الوطن يهتزّ في صدرك،
كأنه يستعيد شبابه بعد تعبٍ طويل،
ويقول لك: شكرًا… لأنك لم تيأس منّي.

يحدث أن تسأل نفسك
لماذا هذا الانجذاب العميق إلى بقعةٍ من الأرض؟
لماذا هذا الحنين الذي لا يخبرنا أين يختبئ، ولا متى يظهر؟
فتدرك أن الوطن ليس الذي نسكن فيه،
بل الذي يسكن فينا…
في فكرة… في أغنية… في صورة… في جملة…
أو حتى في إصغاء حنون
يجعلنا نستعيد ثقتنا بأن هذا العالم
ما زال قادرًا على أن يكون بيتًا آمنًا.
حين يحدث ذلك…
يجلس الوطن في قلبك كما يجلس صديقٌ قديم
عاد من سفرٍ بعيد،
ولا يريد أن يغادر بعد اليوم.

يحدث أن تنطق بكلمةٍ من أعماقك
فتقع في قلب الآخر كما تقع قطرة ماء على أرض عطشى،
فتُحيي فيها شيئًا لا يُرى.
حين يحدث ذلك…
تشعر أن الوطن ليس مجرد أرض،
بل لغة مشتركة بينك وبين من يفهمك،
حتى وإن لم تتشابها في كل شيء.
الوطن هو ذلك الجزء من روحك
الذي يطمئن حين يجد من يشبهك في الصدق،
لا في الرأي.

وفي النهاية…
يحدث أن تجد من يصغي إليك كما لم يفعل أحد،
فيتحول الإصغاء ذاته إلى وطن،
ويتحول الوطن إلى صديق،
ويتحول الصديق إلى مرآةٍ ترى فيها نفسك
كما أردت أن تكون دائمًا… لا كما فرضت عليك الأيام.
حين يحدث ذلك…
يجلس الوطن في عمق القلب،
لا ليُثقل عليك،
بل ليذكّرك أنك لست وحدك،
وأنك مهما ابتعدت،
فإن قطعةً منه
تسكنك قبل أن تسكنه.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى