
من أعظم ما جاء به الإسلام أنه لا ينظر إلى الإنسان بما يملك أو بما يظهر، بل بما يُعطي وما ينفع به الناس. وفي عالمٍ يموج بالأنانية، يبقى قول النبي صلى الله عليه وسلم نورًا لا يخبو: «أحبُّ الناسِ إلى الله أنفعُهم للناس»— رواه الطبراني، وحسّنه الألباني.
هذا الحديث ليس مجرد فضيلة، بل منهج حياة، وروحٌ تمثّل جوهر الشريعة وغاياتها الكبرى (المقاصد). فخدمة الناس ليست عملاً اجتماعيًا فقط، بل عبادة، وقُربة، وطريق إلى رضا الله، وسبب لرفعة الإنسان في الدنيا والآخرة.
أولًا: خدمة الناس في ضوء القرآن والسنة.
1- القرآن يربط الإيمان بالعمل النافع.
يقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾— المائدة، 2.
والبرّ هنا— كما قال ابن كثير— اسمٌ جامع لكل الخير.
ويقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾— آل عمران، 92.
فالإنفاق، والعطاء، والبذل.. كلها صورٌ من النفع التي تُبلغ العبد مقام البر.
ويقول سبحانه في وصف خير المؤمنين: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾— الحشر، 9.
وهذا أعلى درجات نفع الناس.
2. السنة تضع النفع معيارًا للخيرية.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
● «والله في عونِ العبد ما كان العبدُ في عونِ أخيه»— متفق عليه.
وجودك بجانب الناس.. سبب لوجود عون الله بجانبك.
● «من نفّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة»— مسلم.
سرٌّ عظيم: تُفرّج كربة إنسان.. يفرّج الله عنك كربًا أعظم.
● «لأن أمشي مع أخٍ لي في حاجة، أحبّ إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا»— الطبراني، وصححه الألباني.
قضاء حاجات الناس.. أحبّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اعتكاف شهرٍ كامل في المسجد النبوي.
ثانيًا: لماذا كانت خدمة الناس من أعظم القربات؟
1- لأنها تُجسّد رسالة الإسلام.
الإسلام دين رحمة، ورسولُه صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة، وخادم الناس ينشر هذه الرحمة في الأرض.
2- لأنها تحقق معنى “عمارة الأرض”. المسلم ليس كائنًا منعزلاً، بل فاعلاً يبني، يصلح، يُعين، ويُداوي جراح الناس.
3- لأنها تُزكّي النفس وتطهّر القلب.
فالعطاء يقتل الأنانية، ويوقظ الشهامة، ويرفع الإنسان فوق شهوات ذاته.
4- لأنها سببٌ لمحبة الله والناس
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب الله عبدًا وضع له القبول في الأرض»— متفق عليه.
وخادم الناس محبوبٌ في السماء والأرض.
ثالثًا: خدمة الناس من منظور مقاصد الشريعة.
المقاصد الشرعية— كما أصّلها الشاطبي وابن عاشور والريسوني— تهدف إلى حفظ الدين، النفس، العقل، النسل، المال.. وكل خادمٍ للناس يحقق هذه المقاصد بطريقة مباشرة:
1- خدمة الناس تحفظ الدين.
لأن الأخلاق العملية— العطاء، الرحمة، اللطف— هي أعظم أبواب الدعوة.
يقول الشيخ دراز: “الخلق العملي هو الحارس الأول للدين.”
2- تحفظ النفس.
إطعام الجائع، إنقاذ محتاج، علاج مريض.. كلها من صلب هذا المقصد.
3- تحفظ العقل.
بالتعليم، والتوعية، والإرشاد، ومحاربة الجهل.
4- تحفظ الأسرة (النسل).
بالإصلاح، والدعم الاجتماعي، ومساندة النساء والأيتام، ورعاية الأبناء.
5- تحفظ المال.
بالدعم الاقتصادي، وإيجاد فرص العمل، وتخفيف الأعباء عن المحتاجين.
الخلاصة: كل نفعٍ يقدّمه الإنسان هو تطبيق عمليّ مباشر للمقاصد الشرعية.
رابعًا: كيف نوظّف هذا المبدأ في حياتنا ومؤسساتنا؟.
1- تبنّي “عقلية النفع” في الحياة اليومية.. ابدأ يومك بسؤال: كيف أنفع شخصًا اليوم؟
بمكالمة، كلمة، نصيحة، دعم، عمل، مشروع… أي شيء.
2- تحويل الجمعيات والمساجد إلى منصات نفع عام
تعليم.
دعم نفسي.
صناديق تكافل.
إصلاح بين الناس.
مشاريع شبابية.
هذا هو التطبيق المؤسسي للمقاصد.
3- جعل المقاصد معيارًا لتقييم أي عمل.
هل المشروع يحفظ النفس؟
هل يرفع العقل؟
هل يحفظ الأسرة؟
هل يقوّي الدين؟
هل يحفظ المال؟
إن نعم → فهو مشروع شرعي مبارك.
4- تحويل خدمة الناس إلى وسيلة لمقاومة الظلم ونصرة المظلومين
في زمن الظلم والاستبداد، تصبح خدمة الناس جهادًا شرعيًا.
الوقوف مع المعتقلين.
دعم المستضعفين.
مقاومة الباطل.
فضح الظلم.
إغاثة الملهوفين.
وهذا يحقّق أعلى درجات “حفظ النفس والدين والكرامة”.
خامسًا: صور عملية للنفع في حياتنا اليوم.
مساعدة محتاج.
قضاء دين.
تعليم جاهل.
دعم أسرة.
إصلاح بين زوجين.
إيجاد عمل لشاب.
مساعدة مريض.
توجيه ضال.
رفع وعي الناس.
مساندة قضايا الأمة (فلسطين، المظلومين، المهمّشين).
كل واحدة من هذه الأعمال باب عظيم للأجر.
خاتمة: اجعل لنفسك أثرًا.. فالعمر قصير والفرص محدودة.
سيُنسى كل ما جمعناه، ويبقى ما قدّمناه.
وسيذهب الجسد، لكن سيبقى الأثر.
وسيموت الإنسان، لكن سيعيش خيره بين الناس.
افتح باب خير.. يفتح الله لك أبوابًا.
فرّج كربة.. يفرّج الله عنك كربًا أعظم.
ساعد محتاجًا.. يكتب الله لك أجرًا لا ينفد.
وهكذا يتحقق معنى الحديث العظيم:
“خيرُ الناسِ أنفعُهم للناس.”







