
عبر مسيرة البشرية، برزت قوى عسكرية واقتصادية تركت بصمتها لا على عصرها فحسب، بل على مسار الحضارة الإنسانية بأكملها.
بينما تشق المراكب الشراعية الهولندية عباب المحيطات في الشمال، كانت عجلات الحرب الفرعونية تدور على ضفاف النيل في الجنوب.
إنها قصة التفوق الاستراتيجي جيش مصري الفرعوني هيمن على البر، وأسطول هولندي هيمن على البحر.
جيوش الفراعنة.. عندما كانت القوة تجسد الإرادة الإلهية على الأرض لم تكن الجيوش المصرية الفرعونية مجرد مجموعات من المحاربين، بل كانت آلة عسكرية منظمة ومتقدمة، كانت ذراع الإمبراطورية الطويل وسر بقائها لآلآف السنين .
فقد كان الانضباط والهيكل التنظيمي المتقن الذي تمتعت بها الجيوش المصرية هو هيكل قيادي هرمي واضح، يقف على رأسه الفرعون، القائد الأعلى للجيش، الذي كان يجسد الإله “حورس” على الأرض.
كان الجيش مقسماً إلى فيالق، وكل فيلق إلى كتائب وأسراب، مع وجود قادة مختصين للمشاة والعربات الحربية، مما ضمن سرعة في التنفيذ وكفاءة في القيادة على أرض المعركة.
وكان التسليح والتكنولوجيا العسكرية والتي أظهر المصريون القدماء براعة في تطوير الأسلحة.
من الفؤوس النحاسية والسيوف المنجلية (“الخوبيش”) إلى الرماح والأقواس المركبة التي منحتهم مدىً ودقة متفوقين.
لكن الابتكار الأبرز كان العربة الحربية التي أدخلوها في عصر الدولة الحديثة.
كانت هذه العربات الخفيفة والسريعة، التي تجرها الخيول وتقوم عليها فرق من الرماة، بمثابة المدرعات في العصور القديمة، حيث كانت تحسم المعارك بسرعة ومباغتة، كما في معركة “قادش” الشهيرة ضد الحيثيين.
الاستراتيجية والهندسة فلم تكن عبقرية الجيش الفرعوني مقتصرة على القتال المباشر، بل امتدت إلى فنون الحصار وبناء التحصينات.
كما شُيدت شبكة من القلاع والحصون على الحدود، خاصة في سيناء والنوبة، لحماية المملكة وتأمين طرق التجارة.
كان الجندي المصري ليس محارباً فحسب، بل كان حارساً للإمبراطورية ومهندساً لحدودها.
بينما كانت إمبراطورية الرمال والنيل تترسخ، شهدت أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر صعود قوة بحرية غير مسبوقة من الأراضي المنخفضة.
لم تكن هولندا تمتلك جيوشاً برية ضخمة، لكنها سيطرت على عالم البحار بأسطول تجاري وعسكري لا يُقهَر.
فقد أصبحوا سادة التجارة والملاحة وكان العمود الفقري للتفوق الهولندي هو أسطولهم التجاري الهائل.
كانت السفن الهولندية، مثل “فلويت” (Fluyt)، ثورة في بناء السفن؛ حيث كانت رخيصة التكاليف، وكبيرة السعة، وتحتاج لطاقم محدود لإدارتها.
هذا جعل نقل البضائع الهولندي الأرخص في العالم، مما مكنهم من التحكم بشبكات التجارة العالمية، خاصة في التوابل من جزر الهند الشرقية (إندونيسيا حالياً) عبر شركة “الهند الشرقية الهولندية” الشهيرة.
لم يكن التفوق كمياً فحسب، بل نوعياً.
طوّر البحارة الهولنديون تقنيات ملاحية متقدمة وخرائط دقيقة.
كما كان أسطولهم الحربي، تحت قيادة أدميرالات أسطوريين مثل “ميخائيل دي رويتر”، مدرّباً تدريباً عالياً على تكتيكات القتال البحري المعقدة، مثل تكوين الخطوط البحرية واستخدام نيران المدافع بدقة.
انتصاراتهم في الحروب الإنجليزية الهولندية كانت شهادة على هذه البراعة.
كانت القوة البحرية الهولندية في الأساس قوة اقتصادية فاصبحت القوة الناعمة والاقتصاد كسلاح .
بنيت ثروة الأمة على التجارة والخدمات المصرفية والتأمين.
لم تكن السفن الحربية تحمي الأراضي فحسب، بل كانت تحمي خطوط التموين التجارية التي شكلت ثروة ورفاهية الدولة الهولندية الفتية، لتصبح “محلقة أوروبا” في ذلك العصر.
إرثان خالدان على الرغم من الفارق الزمني والمكاني، يجمع بين الجيش الفرعوني والأسطول الهولندي سمة واحدة جوهرية وهي الذكاء الاستراتيجي في استغلال الميزة النسبية.
استغل الفراعنة نهر النيل كشريان حياة وطريق سريع، وبنوا حوله أقوى جيش بري في عصرهم.
بينما استغل الهولنديون موقعهم الجغرافي وبراعتهم التقنية ليصبحوا سادة البحار والتجارة.
اليوم، يبقى إرث هاتين القوتين حاضرا في نقوش معابد الكرنك والأقصر والمتحف المصري الكبير والاهرامات وأبو الهول وغيرهم الالاف المواقع الأثرية والتي تروي انتصارات الفراعنة، وفي المتاحف الهولندية التي تحتفظ بصور سفن “فلويت” العملاقة، شاهدة على عصر ذهبي حيث حكمت مصر البر وسادت هولندا البحر.







