شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: بين بروكسل وباريس وإسطنبول… خيطٌ عربيّ يُعزَف من جديد

عدتُ من بروكسل،
ولم يكن في حقيبتي سوى ورق،
لكن في صدري كان شيء يشبه بركانًا…
بركانُ أسئلةٍ تأبى الصمت،
وغضبٌ يتدفّق كأن الأمة كلّها
تحاول أن تستردّ صوتها من فم التاريخ.

ثمّ وصلتُ باريس،
المدينة التي تُضيء العالم حين تريد،
وتتركه في العتمة حين لا يعنيها الأمر.
هناك أدركت أن الفكرة — لا المدفع —
هي التي تغيّر مصائر الشعوب،
وأن الأمة التي تفقد قدرتها على التفكير
تتحول — مهما رفعت شعاراتها —
إلى ظلّ بلا جسد.

بدأتُ رحلتي من الجناح المصري في اللوفر،
حيث تتكدّس الحقيقة في الحجر،
وحيث يطلّ الزمن عليك
كأنه يسألك:
“أيها العابر فوق ذاكرة سبعة آلاف عام…
ماذا فعلت بما ورثت؟”

لكن باريس لم تكن هذا الأسبوع مدينةً للسياح،
بل مدينة للبوح العربي؛
فقد احتضنت ملتقى “فلسطين وأوروبا: الذاكرة والسياسة ومسؤولية الحاضر”
الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
وكان الدكتور عزمي بشارة
يقف فيه كجذع الضوء،
صوتًا لا يشبه الأصوات،
يُفكك الوهم الأوروبي،
ويضع فلسطين في واجهة التاريخ
لا في هامشه.

كان يقول ما يجب أن يُقال،
لا ما يُسمح أن يُقال.
ولذلك كان وجوده هناك
ليس مشاركة فكرية فحسب،
بل إعلانًا صريحًا
أن العرب لم يموتوا…
بل ينتظرون لحظة ينهض فيها العقل
قبل الجسد.

وكم كنتُ أتمنى أن أجلس في تلك القاعة المشتعلة،
لولا أنّ الغد يحملني إلى إسطنبول
حيث يبدأ المجلس العربي — برئاسة الرئيس المنصف المرزوقي —
سلسلة من الأنشطة المكثفة
من 20 إلى 24 نوفمبر،
أنشطة أعلنت أنها لا تخشى الحقيقة
ولا تجامل القتلة.

في 20 نوفمبر
نبدأ بلقاءٍ حاسم حول السودان،
ثم ننتقل في اليوم ذاته إلى افتتاح
المركز الثقافي المصري في إسطنبول
الذي يضمّ:
– التوسعة الكبرى لمعرض الحضارة المصرية
– متحف الشخصيات المصرية والعربية المؤثرة
– معرض الحضارة الإسلامية
– ومعرض تطوّر فن التصوير والكاميرات.

وفي 21 نوفمبر
أقفُ على منصة صغيرة
لكنّها تحمل وزن عمري كله
لأوقع كتابي الجديد:
“أوراق من مذكّراتي”
ذلك الكتاب الذي خرج من لحم التجربة،
ومن جراح الأعوام الثقيلة.

ثم تأتي المحطات الأخطر:
– الإعلان عن ملف مكافحة الإفلات من العقاب في سوريا،
ليعرف العالم أن الدم العربي
ليس ماءً…
وأن العدالة لا تسقط بالتقادم.
– ثم تقرير مفصّل عن الإبادة الجماعية في غزة،
إبادةٍ لم يعد أحد قادرًا على إخفاء آثارها،
ولا على تزييف أرقامها،
ولا على اغتيال الحقيقة التي تنزف
مثل طفلٍ يبحث عن أمّه تحت الركام.

أغادر باريس غدًا،
لكنني أغادرها وأنا واثق
أن ما بين بروكسل وباريس وإسطنبول
خيطًا عربيًا بدأ يُعزف من جديد؛
خيط فكر،
وخيط مقاومة،
وخيط إيمان
بأن الكلمة — حين تُقال بصدق —
لا تصبح وطنًا فقط…
بل تصبح سلاحًا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى