مقالات وآراء

د. طارق الزمر يكتب : القرار الأمريكي وإعادة هندسة الإقليم على حساب الأمن القومي المصري”

يمثّل القرار الأمريكي الأخير في مجلس الأمن بشأن غزة محطة مفصلية في إعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية المحيطة بمصر، ليس لأنه قرار لوقف إطلاق النار، بل لأنه جاء محمّلًا برؤية أمريكية–إسرائيلية لإدارة “اليوم التالي” للحرب دون مراعاة توازنات الإقليم أو المخاطر المباشرة على الأمن القومي المصري. فمنذ البداية، لم يتعامل القرار مع غزة بوصفها عمقًا جغرافيًا وسياسيًا وديموغرافيًا لمصر

بل بوصفها ساحة مفتوحة لإعادة الهندسة السياسية والأمنية، يمكن التحكم بها وإعادة صياغة بنيتها بما يخدم مصالح واشنطن وتل أبيب. هذا التجاهل بحد ذاته يحمل بذور أزمة استراتيجية عميقة، لأن أي تغيّر في غزة ينعكس مباشرة على سيناء، بل وعلى المنظومة الأمنية الداخلية المصرية كلها.

أخطر ما في هذا القرار أنه يعيد إنتاج الوصاية الدولية على الحدود والسكان دون الاعتراف بالسيادة المصرية الكاملة على سيناء أو النظر إلى حدود رفح باعتبارها خطًا أحمر لا يقبل المشاركة الأجنبية. فمن خلال الصياغات المبهمة عن ترتيبات أمنية “تشرف عليها أطراف دولية”، يفتح القرار الباب لعودة القوات الدولية إلى المشهد الفلسطيني–المصري، سواء في شكل رقابة على المعابر أو انتشار مباشر داخل غزة، أو إشراف على إعادة الإعمار.

هذه الصيغة تحمل تهديدًا واضحًا للعقيدة الأمنية المصرية التي تأسست منذ 1979 على منع أي وجود أجنبي على حدودها الشرقية، وحماية سيناء من التحول إلى منطقة تماس دولي أو ميدان لتجاذبات القوى الكبرى. فإذا أصبحت غزة منطقة تخضع لإدارة أمنية دولية، فإن سيناء ستتحول عمليًا إلى “منطقة عازلة” دون إعلان، وتصبح مصر طرفًا مجبرًا على التعايش مع ترتيبات لا تمتلك حق تعديلها.

أما الخطر الثاني فهو البعد الديموغرافي. فالقرار، رغم كل الزخارف الدبلوماسية، تجاهل الإشارة الصريحة لرفض التهجير القسري، وتجاهل كذلك ضمان عودة جميع نازحي غزة إلى مناطقهم. هذا التجاهل ليس مجرد نقص لغوي، بل هو منح ضوء أخضر لإسرائيل للاستمرار في سياسة التفريغ الجغرافي–الديموغرافي.

وبما أن القطاع مغلق شمالًا وشرقًا وغربًا، فإن المنفذ الوحيد هو مصر. أيّ تغيير ديموغرافي داخل غزة سيُقابَل بالضرورة بضغوط هائلة على سيناء، سواء عبر موجات نزوح، أو عبر تشكيل “منطقة إنسانية” على الحدود، أو عبر فرض وقائع تجعل مصر طرفًا مشاركًا في هندسة المشهد السكاني للقطاع. وهذا يمثل تهديدًا تاريخيًا، لا أمنيًا فقط، بل سياسيًا وسياديًا وتاريخيًا، لأنه يمسّ جوهر الأمن القومي المصري المرتبط بحماية حدودها وهويتها ووحدة أراضيها.

ثالث الأضرار يتمثل في تراجع الدور المصري في الملف الفلسطيني. فطوال أربعة عقود، كانت القاهرة مركز الثقل في إدارة العلاقة بين الفصائل الفلسطينية، وصاحبة الدور المحوري في تثبيت الهدنة ورعاية المصالحة.

أما اليوم، فالقرار الأمريكي يضع واشنطن وتل أبيب في مقدمة مشهد “الحل”، ويمنحهما حق تحديد شكل الحكم في غزة وترتيبات الأمن الداخلي وإدارة الإعمار. كما يفتح الباب لإدماج أطراف عربية جديدة في هذا الملف، وهو ما يحوّل الدور المصري من “المُمسك بالملف” إلى “الطرف المراقب”، ويقلص نفوذ القاهرة الإقليمي الذي كان أحد أدوات سياستها الخارجية الأكثر ثباتًا عبر العقود.

ولا يقل خطرًا عن ذلك تأثير القرار على أمن البحر الأحمر وقناة السويس. فغياب أي معالجة سياسية جادة لجذور الأزمة في غزة يعني استمرار التوتر الإقليمي، واستمرار الضربات في البحر الأحمر، وبقاء الممرات الدولية مهددة.

استمرار هذا الوضع ينعكس مباشرة على اقتصاد مصر، ويضع قناة السويس – أحد أهم مصادر دخلها – تحت ضغط استراتيجي غير مسبوق. كما يشرعن توسع وجود الأساطيل الأجنبية في البحر الأحمر، وهو ما ينال من الأمن البحري المصري ويعيد رسم معادلات السيطرة البحرية في الإقليم.

وبالإضافة إلى ذلك، يضع القرار مصر أمام معادلة سياسية مستحيلة: فإما القبول بترتيبات أمنية وسياسية تتصادم مع أمنها القومي، وإما معارضة قرار دولي تقوده واشنطن، بما يحمله ذلك من أكلاف دبلوماسية واقتصادية.

ولأن القرار جاء دون ضمانات تحمي مصر، فإنه يفتح الباب لضغوط داخلية متوازية: غضب شعبي رافض لأي مسار يؤدي للتهجير، ضغط اقتصادي متزايد بفعل توتر البحر الأحمر، وانزعاج سياسي من تراجع الدور المصري في ملف كان يمثل أحد أعمدة مكانتها الإقليمية.

خلاصة الأمر أن القرار الأمريكي الأخير لا يكتفي بتجاهل المصالح المصرية، بل يشكل تهديدًا مباشرًا لبنية الأمن القومي المصري في أربعة مستويات: تهديد سيناء، فتح بوابة التهجير، تهميش الدور الإقليمي للقاهرة، ووضع قناة السويس في نطاق الخطر الاستراتيجي.

وهو قرار لا يمكن التعامل معه بوصفه مجرد وثيقة دولية، بل بوصفه محاولة لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية كلها بطريقة لا تراعي مصالح مصر ولا تحفظ مكانتها. وهذا يستدعي رؤية مصرية مستقلة، تعيد بناء تحالفات جديدة، وترفض تحويل غزة إلى ساحة تُدار من الخارج على حساب أمن مصر القومي.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى