
عندما تدخل مكتباً حكومياً في هولندا لتخليص معاملة، قد تختبر تجربتين متناقضتين تماماً، تعكسان تنوعاً ثقافياً واختلافاً في فهم معنى “الخدمة العامة” بين الموظفين. من جهة، يقدم الموظف الهولندي المحترف نموذجاً راقياً في التعامل، يستقبلك بتحية ترحيبة حارة، ويحافظ على التواصل البصري الذي يشعرك بأهميتك، وينصت بانتباه لاستفساراتك دون مقاطعة.
إنه النموذج الذي يضع كرامة المراجع فوق كل اعتبار، فقد قمت بالذهاب الي IND لاهاي، لتحديث بيانات إقامتي، استقبلني موظف هولندي بشاشة مبتسمة، وعرض عليّ الجلوس، استمع لطلبي بعناية، وشرح لي بالإنجليزية كل الخطوات المطلوبة بلغة واضحة وبطريقة مهذبة.
شعرت بأنني شخص مهم وأن طلبي محل تقدير.”
هذا النموذج من الكفاءة المهنية المصحوبة بالاحترام ليس صدفة، بل نتاج ثقافة مؤسسية تضع معايير عالية للخدمة المدنية، وتؤمن بأن الموظف العام هو وجه الدولة أمام المواطن والمقيم.
لكن الصورة ليست وردية بالكامل.
فمن الجهة الأخرى، تظهر تجارب صادمة لمراجعين تعاملوا مع موظفين حاصلين على الجنسية الهولندية ومن أصول أفريقية، حيث يظهر بعضهم سلوكيات غير مهنية تتراوح بين التجاهل والفظاظة والتمييز. فقد تعاملت مع احدي مديرات فرع COA من أصل أفريقي ( الصومال ) كانت متعاليه بشكل صارخ، تتحدث بنبرة استفزازية، وتطلب الوثائق بطريقة أوامر عسكرية، وكأنها تعاقبني على وجودي هناك.
الأكثر إيلاماً أنها تحدثت معي بالهولندية رغم معرفتها أن مستواي في اللغة مبتدئ. هذه الحالات تطرح تساؤلات عميقة عن أسباب هذه السلوكيات المتناقضة. هل يعاني بعض الموظفين من أصول مهاجرة من صراعات هوية تجعلهم يتعاملون بقسوة مع من يرونهم امتداداً لمجتمعاتهم الأصلية؟
أم أن هناك عوامل أخرى تتعلق بالبيئة العملية والتدريب والتقييم؟
وبقرأتي في علم الاجتماع متعددة الثقافات، وجدت أن بعض الموظفين قد يعاني من أصول مهاجرة من ما يسمى بـ ‘التطبيع المفرط’، حيث يشعرون بضرورة إثبات انتمائهم للمجتمع الجديد عبر التميز في تطبيق قوانينه، مما قد يتحول أحياناً إلى تشدد غير مبرر. كما أن البعض قد يحمل داخله صراعات نفسية بسبب تجارب التمييز التي عاشها، فيعيد إنتاج نفس النموذج مع الآخرين.”
في المقابل، يؤكد خبراء إداريون أن السلوك المهني المحترم لا علاقة له بالأصل العرقي، بل بالتدريب الجيد والرقابة المؤسسية الفعالة والثقافة التنظيمية التي ترفع شعار “المواطن أولاً”.
وبسؤالي لاحد مديري الموارد البشرية في إحدى البلديات الهولندية، أوضح “نحن نعمل ضمن معايير خدمية موحدة، ونقدم تدريبات مستمرة على مهارات التواصل والخدمة العامة. أي تجاوز لهذه المعايير يخضع للمساءلة بغض النظر عن خلفية الموظف.”
ختاماً، تبقى الحاجة ملحة لمزيد من الوعي الثقافي والتدريب المتخصص للموظفين، خاصة من خلفيات مهاجرة، لمساعدتهم على تجاوز أي صراعات نفسية أو ثقافية قد تنعكس سلباً على تعاملهم مع المراجعين. فكرامة الإنسان وقيم الاحترام المتبادل يجب أن تعلو فوق كل اعتبار، في مجتمع متعدد الثقافات يسعى للتماسك والعدالة.






