مقالات وآراء

د. محمد الصاوي يكتب :تحالف الأوليغارشيات: قراءة في استقبال ترامب لابن سلمان وتأثير المال على السياسة

عندما يفتح البيت الأبيض أبوابه لولي العهد السعودي محمد بن سلمان وسط حشد من كبار المليارديرات الأمريكيين ، لا يكون الأمر مجرد بروتوكول دبلوماسي عادي.
إنه عرض حي لقوة المال السياسي على السياسة الأمريكية ، ومشهد يكشف كيف أن الثروات الكبرى باتت تتقاطع مع السلطة ، لتعيد رسم قواعد اللعبة الدولية.

في هذه اللحظة ، تصبح الولايات المتحدة ليست مجرد دولة ، بل منصة لصناعة النفوذ عبر الأوليغارشيات العابرة للحدود، حيث تتقدم الاستثمارات والصفقات على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ما وراء الدعوة : لقاء يتجاوز الدبلوماسية

السيناتور الأميركي بيرني ساندرز وصف اللقاء بأنه مؤشر على تغلغل المال السياسي في قلب القرار الأميركي وانحياز واشنطن لقوى المال والسلطوية على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ويشير ساندرز إلى أن الاجتماع، الذي حضره كبار أعضاء النخبة الاقتصادية الأميركية، يعكس مشروعاً سياسي–اقتصادياً متشابكاً، حيث تتلاقى مصالح مليارديرات وادي السيليكون، وشبكات المال في وول ستريت، وصناديق الثروة السيادية الخليجية.

إحصاءات ملموسة:

•⁠ ⁠تم الإعلان عن صفقات استثمارية بين السعودية والولايات المتحدة بقيمة تصل إلى 450 مليار دولار تشمل الطاقة، التكنولوجيا، والصناعات الدفاعية.
•⁠ ⁠استثمر صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) في شركات أميركية كبرى مثل Uber وLucid Motors وSoftBank Vision Fund بما يزيد عن 40 مليار دولار منذ 2018.
•⁠ ⁠الأصول السوقية لشركات التكنولوجيا الكبرى التي حضرت اللقاء تتجاوز 2 تريليون دولار، ما يمنح شبكة المال نفوذاً مباشراً على صُنع القرار.

وفق ساندرز، هذه اللقاءات تمثل تحالفات مالية–سياسية ما بعد الدولة، حيث تتحرك المصالح الكبرى بسرعة أكبر من قدرة المؤسسات الرسمية على تنظيمها، ويصبح القادة السلطويون فاعلين سياسيين مؤثرين داخل السياسات الأميركية، لا مجرد ضيوف دبلوماسيين.

البعد المقارن: هذا ليس حدثاً معزولاً
لفهم دلالات لقاء ترامب – بن سلمان ، يجب وضعه ضمن نمط عالمي آخذ في التوسع ، حيث أصبحت التحالفات بين الزعماء الشعبويين ورجال الأعمال الكبار إحدى سمات العقدين الأخيرين:

  • العلاقة بين ترامب وفلاديمير بوتين مثال على تحالفات تتجاوز المؤسسات الرسمية.
    •⁠ ⁠الدور الذي لعبته الأوليغارشيات الروسية في تسعينيات القرن الماضي، حين تمكنت شبكات المال الخاصة من السيطرة على القرار السياسي وإعادة تشكيل الخريطة السياسية.
    •⁠ ⁠ظواهر مماثلة في الهند مع صعود تحالفات السلطة–المال حول ناريندرا مودي، وفي إسرائيل عبر نفوذ رجال الأعمال المرتبطين بمحيط نتنياهو.

هذا التحليل المقارن يجعل لقاء ترامب وابن سلمان حلقة إضافية في سلسلة عالمية تعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمال والنفوذ.

“القوة الخامسة”: رأس المال العابر للحدود يعيد تشكيل النظام الدولي

منذ 2020، لم يعد بالإمكان تفسير التحالفات السياسية بمنطق الدول وحده. فقد أصبح رأس المال العالمي، بأذرعه المالية والتكنولوجية، قوة سياسية قائمة بذاتها، قادرة على توجيه السياسات الخارجية والداخلية للدول الكبرى.

  • في هذا الإطار، يظهر استقبال ترامب لابن سلمان كجزء من نموذج تحالفي جديد يدمج:
  • •⁠ ⁠الاستثمارات الضخمة
  • •⁠ ⁠شركات التكنولوجيا الكبرى (أصول سوقية تتجاوز 2 تريليون دولار).
  • •⁠ ⁠الأنظمة السلطوية ذات الموارد المالية العالية.
  • •⁠ ⁠مراكز النفوذ السياسي داخل واشنطن.

يهدف هذا النموذج إلى صياغة نظام عالمي موازٍ تتراجع فيه الديمقراطية الليبرالية لصالح ترتيبات هجينة يختلط فيها رأس المال بالسلطة التنفيذية، وتتراجع فيها المؤسسات أمام شبكات النفوذ غير الرسمية. السياسة تُدار مثل الشركات العابرة للقوميات، وفق منطق الصفقات وليس المبادئ.

الأثر على المواطن الأميركي وفق رؤية ساندرز

قد يبدو اللقاء شأنًا من شؤون السياسة الخارجية، لكنه يمس جوهر الديمقراطية الأميركية. فالتقارب بين السياسيين الأميركيين ورأس المال الأجنبي يفاقم التوتر الداخلي ويزيد تآكل الثقة في المؤسسات.

“تشير تقارير مكتب المحاسبة العامة الأميركي لعام 2024 GAO” إلى أن الأموال الأجنبية تمثل نحو 12% من تمويل جماعات الضغط في واشنطن، مع تركيز على قطاعات الطاقة والدفاع. هذا يسمح للأموال الأجنبية بالتأثير على:

  • •⁠ ⁠الحملات الانتخابية .
  • •⁠ ⁠تمويل جماعات الضغط
  • •⁠ ⁠صفقات السلاح
  • •⁠ ⁠القرارات التنفيذية الاستراتيجية

وفق ساندرز، المواطن الأميركي يشعر بأن صوته السياسي يتراجع لصالح مليارديرات عابرين للحدود يسعون لشراء النفوذ، مما يزيد الانقسام الداخلي ويهدد نزاهة الانتخابات القادمة.

تحذير عالمي: تمكين الأنظمة السلطوية

ساندرز يحذر أيضاً من الأثر الدولي لهذه التحالفات، إذ يضع رأس المال العالمي الأنظمة السلطوية في موقع قوة أكبر. اللقاء بين ترامب وابن سلمان مثال على كيفية استخدام الأموال كأداة ضغط دولي، تؤثر على القرار الأميركي، وتعيد تشكيل التحالفات التقليدية على مستوى النظام العالمي.

خاتمة: نحو نظام عالمي بلا قواعد واضحة

لقاء ترامب مع محمد بن سلمان ليس مجرد حدث دبلوماسي، بل علامة على مرحلة جديدة تتشكل فيها التحالفات العالمية وفق منطق السوق لا الدولة، وقاعدة النفوذ لا المبادئ. ويكشف اللقاء عن اصطفاف أميركي واضح مع شبكات الثروة والسلطوية، على حساب قيم الديمقراطية التي لطالما ادّعت واشنطن الدفاع عنها.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم ليس “لماذا استقبل ترامب ابن سلمان؟”، بل “ما مستقبل النظام الدولي عندما تصبح مثل هذه اللقاءات المنصة الحقيقية لصناعة القرار؟”

هامش المقال :


*في هذا المقال، نستخدم مصطلح “الأوليغارشية” للإشارة إلى مجموعة صغيرة من الأفراد الذين يمتلكون نفوذاً اقتصادياً وسياسياً كبيراً، بحيث يستطيعون التأثير على القرارات الحكومية والسياسات الاقتصادية لصالح مصالحهم الخاصة. ويظهر استقبال ترامب لابن سلمان كيف يمكن لشبكات المال هذه أن تتجاوز القنوات التقليدية، وتعيد تشكيل التحالفات الدولية والقرار السياسي.

بقلم: د. محمد الصاوي – الباحث في العلاقات الدولية

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى