
منذ سنوات طويلة، تُظهر إسرائيل بوضوح أنّ السلام ليس خياراً مطروحاً على طاولتها، ولا حتى التهدئة الدائمة. فالمسار الذي تنتهجه تل أبيب اليوم يتجاوز منطق الردع التقليدي ليدخل في مرحلة جديدة من المشروع الإسرائيلي هدفها إحداث تغيير جذري في البيئة الجيوسياسية المحيطة بها، وتحديداً في لبنان.
فبالنسبة لإسرائيل، لا مكان لتسويات وسطى، بل هناك رؤيتان لا ثالث لهما: إما الإخضاع الكامل، أو استمرار المواجهة المفتوحة على كل ساحاتها.
منطق القوة بدل منطق التفاوض
لا تبدو إسرائيل مستعدة للعودة إلى طاولة المفاوضات، ولا إلى أي صيغة «تفاهم» شبيهة بالتي عرفها الجنوب خلال عقود. تتصرّف تل أبيب انطلاقاً من قناعة أنّ الضغط العسكري والأمني هو الوسيلة الوحيدة لفرض وقائع جديدة على لبنان، وهي قناعة تعزّزها إدارة ترامب التي تعتبر أنّ تفكيك القوة العسكرية لحزب الله – إن أمكن – لا يكفي وحده. فالمطلوب من وجهة نظر واشنطن وتل أبيب هو تغيير البيئة الأمنية في الجنوب وفرض ترتيبات عميقة تتجاوز القرار 1701 إلى ما يشبه إعادة هندسة الحدود والعمق اللبناني على حدّ سواء.
من هنا يأتي اغتيال المسؤول العسكري في حزب الله هيثم طبطبائي، ليس كحدث منفصل، بل كحلقة ضمن مخطط متكامل يستهدف بنية الحزب القيادية والعسكرية معاً. فالاغتيالات بالنسبة لإسرائيل ليست أدوات تكتيكية، بل جزء من استراتيجية طويلة الأمد هدفها كسر «العمود الفقري» للمحور الإقليمي المرتبط بإيران.
تغيير خرائط المنطقة: من غزة إلى العراق
يندرج المشهد اللبناني الراهن ضمن صورة أوسع ترسمها إسرائيل بدقّة:
غزة أُبيدت بنيتها التحتية، وتعمل إسرائيل على دفع قيادة حماس إلى المنافي.
سوريا تفكك جيشها وتحولت إلى مناطق نفوذ متشابكة؛ وتعتبر تل أبيب أنّ دمشق خرجت من معادلة الردع.
العراق يعيد ترتيب توازناته الداخلية، فيما يتمدد النفوذ الكردي ضمن مشروع انفصالي قديم–جديد يريح إسرائيل جيواستراتيجياً.
وسط هذا المشهد، ترى تل أبيب أنّ الجنوب اللبناني هو “الشعاع الحيوي” الأخير الذي يجب تطويعه، باعتباره الخاصرة التي ما زالت تقيّد حركة إسرائيل الاستراتيجية باتجاه الشمال الشرقي.
حزب الله… العقدة الأساسية في الحسابات الإسرائيلية
لا تتعامل إسرائيل مع حزب الله كتنظيم عسكري فحسب، بل كـ«مفهوم» سياسي–اجتماعي–عقائدي فريد تشكّل عبر ثلاثة عقود. فكل ما تعتبره إسرائيل خطراً وجودياً يرتبط بقدرة حزب الله على:
- 1. خلق معادلة ردع فعّالة ما زالت تمنع الحرب الكبرى رغم كل محاولات التصعيد.
- 2. القدرة على تطوير السلاح النوعي رغم كل العقوبات والاستهداف.
- 3. الحاضنة الاجتماعية والسياسية التي تمنع عزله داخلياً رغم الضغوط.
من هنا، لا يمكن لإسرائيل – وفق منطقها – أن تقبل بوجود حزب الله كقوة صاعدة، ولا بلبنان كنموذج تعددي قادر على إنتاج توازن سياسي وثقافي من دون وصاية خارجية.
لبنان… الفكرة التي تريد إسرائيل إسقاطها
يتحوّل لبنان اليوم في العقل الأمني الإسرائيلي من مشكلة عسكرية إلى مشكلة رمزية.
فلبنان، رغم أزماته، ما زال:
- مساحة لقاء للأديان والحضارات،
- نموذجاً للتعددية،
- منصة إعلامية وثقافية حرة،
- بيئة تنتج مقاومة شرعية في نظر جزء كبير من شعبها.
هذه «الفكرة اللبنانية» – المتجاوزة للحدود – هي ما تسعى إسرائيل إلى ضربه. فإضعاف لبنان اقتصادياً، ودفعه إلى الانهيار المؤسساتي، وتغذية الانقسام الداخلي، ليست تفاصيل عابرة، بل جزء من المعركة الكبرى التي تخوضها تل أبيب لإسقاط آخر نموذج عربي قادر على تشكيل حالة مقاومة حقيقية.
نحو مرحلة جديدة من المواجهة
أمام هذا المشهد، يبدو أنّ المنطقة تتجه نحو مرحلة أكثر تعقيداً، حيث تعمل إسرائيل على تحويل كل محيطها إلى مساحات خاضعة لهيمنتها، أو على الأقل محيدة عن الصراع.
لكن ما تواجهه في لبنان يختلف عن باقي الساحات:
- فالشعب اللبناني، رغم الانقسام، يرفض الإملاء الخارجي،
- وحزب الله أصبح جزءاً من التوازن الداخلي لا يمكن شطبه بقرار،
- فيما يدرك الإقليم أنّ إسقاط لبنان يفتح الباب أمام فوضى غير مسبوقة.
في المحصّلة، إسرائيل لا تريد السلام، لأنها تعتبر أنّ السلام يقيّدها.
وهي لا تسعى إلى تسوية مع لبنان، بل إلى صيغة استسلام تُنهي دور الحزب وتغيّر وجه البلد ودوره.
لكن حسابات إسرائيل تصطدم بحقائق الجغرافيا والتاريخ والمجتمع، ما يجعل لبنان ساحة صراع طويلة، لكنها في الوقت نفسه ساحة صمود استثنائي استطاع حتى اللحظة أن يربك المشاريع الكبرى.







