
في “مكان وسط الزحام”، لا يروي عمار علي حسن قصة صعود، بل بدت سيرته كقصة مقاومة. مقاومة التهميش، مقاومة التزييف، مقاومة الانصهار في الجماعة حين تفقد الجماعة صوتها. يكتب عن الطفولة بوصفها لحظة تكوين، عن الجامعة بوصفها صدمة، عن الصحافة بوصفها اختبارًا أخلاقيًا، وعن الثورة بوصفها خيبة أمل كبرى.
كل فصل في حياة عمار هو فصل في كتاب الوطن، وكل موقف هو مرآة لزمنٍ يتقاطع فيه الحلم مع الخذلان.
أذكر حين نشر صورته بملابس منزلية بسيطة، واقفًا بجوار عامل يصلح شيئًا في بيته، لم يكن يستعرض تواضعه، بل كان يعلن موقفًا: أن المثقف ليس نجمًا، بل إنسان. أن الهيبة لا تصنعها الملابس. أن الصدق بالتماسك الداخلي بين القول والفعل. الصورة التي عابها عليه البعض كانت في الحقيقة أكثر تعبيرًا عن مشروعه من ألف مقال.
كانت إعلانًا بأن المثقف الحقيقي لا يخجل من حياته، بل يعتز بها، ويكتبها، ويشاركها، ويحولها إلى مادة للتأمل والنقد.
علاقته بالصحافة كانت دائمًا علاقة متوترة، لأنه لم يقبل أن يكون تابعًا، ولم يرضَ أن يُقصقص مقاله ليُناسب “المرحلة”. كتب في جريدة “العربي” الناصرية الأسبوعية، وكان قلمه إضافة حقيقية لصفحتي الرأي وكنت أشرف عليهما، ومن بعد كتب في صحف يومية، لكنه لم يساوم، ولم يهادن، بل اختار أن يكون على الهامش، إذا كان المركز يعني التنازل. في كل مرة يُقصى فيها، كان يكتب أكثر، كأن الإقصاء لا يُسكت، بل يُحفّز، وكأن المنفى لا يُضعف، بل يُحرّر.
وسط الزحام، اختار أن يكون مكانًا لا ظلًا، صوتًا لا صدى، موقفًا لا وظيفة. وفي هذا الاختيار، يكمن جوهر مشروعه: أن تكتب لأنك لا تملك سلاحًا آخر، وأن تظل واقفًا، حتى لو ضاقت المساحة، لأن الكلمة الصادقة، في النهاية، هي التي تبقى.







