مقالات وآراء

ناجي الكرشابي يكتب : ديمقراطية قائد الجيش…!

في هذا الزمن الكالح الذي أصاب الذاكرة السودانية بالإجهاد من كثرة الكذب والتدليس، وفي لحظات يرتفع فيها ضجيج الساقطين على صوت الحقيقة، يصبح واجبًا أن نستعيد بعض المشاهد التي لا يبهت لمعانها مهما تكاثفت الأزمات. مشاهد لا يجب أن تختزل في كونها مجرد أحداث تاريخية، لأنها أكبر من ذلك؛ هي “أفعال أخلاقية” صنعت ولا تزال تصنع الفرق والفارق بين الحاضر التائه والماضي التليد.

ولعل أبرز هذه المشاهد النادرة هو ما فعله قائد الجيش السوداني المشير عبد الرحمن سوار الذهب، عليه رحمة الله، عقب انتفاضة أبريل 1985. ذلك الرجل الذي قدّم درسًا نادرًا في الانضباط العسكري والوطني، وفي معنى أن تكون مؤسسة الجيش “حارس الديمقراطية” لا وصيًّا عليها. ولربما كان “المشير” سببًا بعد “بسالة كرن” في إلهام شاعرنا الكبير عمر البنا، وبلغة غاية المنى، في كتابة رائعته التي صدح بها الفنان الكبير كمال ترباس “الحارس مالنا ودمنا”.

وأنا أكتب اليوم عن هذا الرجل، عادت بي الذاكرة إلى لحظة شخصية لا تغيب. كنت قد وصلت منهكًا إلى قناة الشرق بعد يوم مرهق جدًا لتقديم برنامج الشارع السوداني. وبينما أجلس على صالون القناة الذي ازدَان بالعديد من صور الشخصيات العربية الملهمة في جناح المجلس العربي، وقع نظري على صورة المشير سوار الذهب بين تلك الوجوه المشرقة. في تلك اللحظة تسللت إلى نفسي حسرة وطنية… كيف يحتفي الآخرون برموزنا، ويعرفون قيمتهم جيدًا، بينما بعض مثقفينا لا يزالون يركضون خلف “الآخر”، ويتناسون قممًا صنعت مجد هذا الوطن… ولا أزيد.

أكتب اليوم ليعلم ويتذكر جيلي ومن قبلنا وبعدنا، ونثق أن الجيش “القلوب طمأنا وارتحنا وزال همنا” قديمًا وسيكون الآن أيضًا. ولنؤكد أن قيادة الجيش المبادئ لديها أقوى من الإغراءات، وأنها حجة قوية تؤكد أن الجيش السوداني مؤسسة تعيد السلطة إلى الشعب. وأن الذين يتهمونها بالهيمنة يتجاهلون عمدًا حقيقة أنه قدّم أندر درس في الانضباط الوطني في العالم.

في ذلك الوقت، كانت البلاد على صفيح سياسي ساخن. الأحزاب والقوى السياسية والنقابات تتزاحم، وتعلن قوائم المطالب، و”المطابخ” السياسية في الداخل والخارج تتهيأ لإعادة توزيع النفوذ والسلطة. ورغم ذلك، وقف قائد الجيش في موقع حساس لا يُحسد عليه: سلطة كاملة بين يديه، فراغ دستوري، وقوى سياسية تتطلع إلى إدارة مرحلة انتقالية طويلة تُعاد فيها هندسة الواقع السوداني بعيدًا عن صندوق الانتخابات. ولكن سوار الذهب لم يرَ في هذا المشهد فرصة للسلطة بقدر ما رآه واجبًا للعبور.

اللافت أن كل القوى السياسية – بلا استثناء تقريبًا – كانت قد أجمعت على ضرورة تمديد الفترة الانتقالية برئاسة الجيش، وتعللت بأن السودان يحتاج إلى “إعادة ترتيب” قبل العودة إلى الديمقراطية، وكانت تخلط أوراق الثورة مع حساباتها الخاصة. لكن سوار الذهب قال جملته التي حفظها التاريخ: “اتفقتم أم لم تتفقوا… نحن ملتزمون بتسليم السلطة لحكومة منتخبة”.

وبهذه العبارة أغلق الباب أمام سوق المساومات السياسية، وأعاد تعريف معنى المسؤولية الوطنية. رفض أن تكون المؤسسة العسكرية سلّمًا لأحد، أو حليفًا لجهة، أو مظلة لمكاسب حزبية.

ورفض الجيش في شخصه الكريم المشاركة في أي تعديل دستوري أو إعادة صياغة المشهد السياسي، وكانت هذه أول سابقة من نوعها في عالم السياسة: أن جيشًا يتسلم السلطة مضطرًا… ويسلمها مختارًا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى