
اريد ان اموت في بلدي
يجيء الثالث من ديسمبر
كأنه زيارة من الزمن…
يومٌ يفتح بابًا قديمًا،
يدخل منه وجهٌ أعرفه دون أن أراه…
وجه أحمد عرابي.
يومٌ لا يذكّرني بمحاكمة في العباسية قدر ما يذكّرني بمحاكمةٍ أخرى…
محاكمةٍ تجري داخل كل قلبٍ عاش الغربة،
أو حمل حلمًا أكبر من قدر جسده.
يقترب هذا اليوم من روحي كما يقترب الدم من أصله…
لأن الرجل لم يكن زعيمًا فقط، بل كان من الاشراف
نسبٍ جمعني به، وبكل شجرة الضوء، التي تبدأ جذورها، من بيت رسول الله ﷺ.
ذلك النسب الذي يجعل الحكاية بالنسب ليست حكايه تمثال ازحنا عنه الستار، ليست حكاية تاريخ… بل حكاية دمٍ يمتدّ في القلب قبل أن يمتدّ في الورق.
يقف اليوم تمثاله أمامي
يضع يده على كتفي…
كأنه يقول:
“لسنا أبناء عابريْن… نحن أبناء سلالةٍ تحمل نورها معها حيثما ذهبت”.
ذلك النور الذي جمع الرجل بالوطن،
وجمعني به،
وجمعنا جميعًا
بحكايةٍ لا تنتهي.
اتذكر اليوم نسبًا آخر…
نسبًا لا يُكتب في شهادات الميلاد
بل يُكتب في جبين الوطن.
عرابي الذي بدأ الصرخة،
إلى تلميذه
سعد زغلول الذي حوّلها إلى طريق،وثوره
إلى تلميذه
مصطفى النحاس الذي أهدى هذا الطريق إلى تلميذه فؤاد سراج الدين الذي كان أبي الروحي، ومعلّمي، ونافذتي على المعنى الحقيقي للسياسة:
سياسة القلب
قبل الخطاب…
وسياسة الشرف
قبل المكسب…
وسياسة الإنسان
قبل التنظيم او المنصب.
ثم يأتي النسب الثالث… الأكثر وجعًا…الذي يوجعني ويجمعني به.
نسب الغربة.
ذلك النسب الذي لا يكتبه أحد…
لكن يكتبه الواقع.
رغم المسافة بين زعيم نُفي إلى “سرنديب”
ورجلٍ مصري من احفاد احفاده
يعرف مرارة الغربة كما عرفها هو.
كم اشعر ان
غربة عرابي تشبه غربتي…
لا لأنها من نفس النوع…
بل لأنها من نفس الطعم.
طعم الأوطان التي نحملها في قلوبنا
أكثر مما تحملنا هي في أمكنتها.
لم تكن محاكمة 1882
محاكمة لعرابي…
بل كانت محاكمة للأمل في ان نولد احرارا
ولا نكون عبيدا
الشبه هو حين تُحاكم الروح لأنها قالت: “لا”.
حين يُجرّم الوقوف
لأن الوقوف يحرج الركوع.
حين يُنفى الإنسان فقط
لأنه يشبه بلاده أكثر مما يشبه سجّانه.
تحمل الباخرة الإنجليزية “ماريوتيس” جسده…
لكنها لا تستطيع حمل روحه.
يذهب الجسد إلى المنفى،
ويظل القلب في مصر،
كأن بينهما حبلًا لا ينقطع
حتى لو حاولت الغربه قطعه.
تستقبله سيلان
كأنها تستقبل جرحًا يمشي على قدميه.
يتجمّع الناس في الميناء…
لا ليشمِتوا… كما فعل بعض ابناء جلدته
بل ليروا الرجل الذي قاوم أكبر إمبراطورية في العالم،
ثم جاء إليهم محمولًا على سفينةٍ لا تليق بقامته.
يمضي في “كولومبو” سبع سنوات…
سبع سنوات ليست زمنًا…
بل تجويفٌ في القلب.
ثم يُنقل مع البارودي إلى “كاندي”…
إلى مدينة باردة تشبه المسافة بين الحلم والواقع.
هناك… في وحدته… كتب رسائله.
رسائل ليست وسائل للعوده…
بل أنينًا دافئًا، يخرج من قلبٍ مكسور،
لكنه لا يزال قادرًا على الحب.
كتب يقول:
“أريد أن أموت في بلدي…”
جملة بسيطة…
وحق اصيل…
لكنها تُذيب الحجر،
لأن كل من عاش غربة
يعرف أن الوطن ليس مكانًا…
ولا قبرا… بل حضنًا.
اليوم نقرأ
رسائله فنشعر أننا نقرأ أنفسنا.
نقرأ خوفه
وشوقه
وحنينه
ويقينه…
فنجد الأحرف تتبدّل،
ويصبح عرابي هو نحن…
ونصبح نحن ظلًّا من ظلاله.
عاد البارودي بعد 18 عامًا وهو أعمى…
لم يفقد عينيه فقط،
بل فقد جزءًا من الربيع الذي كان يحمله في صدره.
والمنفى يفعل ذلك بالرجال احيانا:
يخطف الربيع… ويترك الشوك.
وعاد عرابي بعد 20 سنة…
لكنه لم يعد منفيًا.
عاد كمن يعود إلى قلبه…
كمن يعود إلى أمّه بعد فراق طويل…
كمن يعود إلى وطنٍ لم يغادره يومًا إلا بجسده.
عاد على متن الباخرة الألمانية “برنسيس إيرين”…
لكن الحقيقة أن الوطن هو الذي عاد إليه.
عاد ليكمل آخر 10 سنوات من حياته…
سنوات قليلة في العدد،
لكنها كانت كافية ليضع رأسه أخيرًا
على الوسادة التي أحبّها.
وفي 21 سبتمبر 1911…
أغلق عينيه.
لا ليغيب.
بل ليتركنا نفتح أعيننا نحن.
يغادر الجسد… لكن تبقى الوصية: «أريد أن أموت في بلدي».
وصيةٌ لا تخصّ الموت…
بل تخصّ الحياة.
الحياة التي أرادها كريمة،
وحرة،
ومرفوعة الرأس.
تستعيد مصر اليوم ملامحه
كما تستعيد لنفسها معنى الكرامة.
تستعيد صوته…
ووقوفه…
وصرخته التي لا تزال تجري في عروق هذا الوطن.
وانا أقف أمامكم اليوم…
في هذا الثالث من ديسمبر…
بنفس اليقين الذي وقف به هو.
يقينٌ بأن الغربة امتحان…
لكنها ليست نهاية.
يقينٌ بأن الوطن لا ينسى أبناءه…
وإن نسيهم أهلُه أحيانًا.
يقينٌ بأن الطريق لم ينتهِ…
وأن الرسالة لا تزال تنتظر من يحملها دون خوف…
ومن يحبّ بلاده بنفس الطريقة التي أحبّ بها عرابي مصر:
حبًّا بلا شروط…
وبلا حدود…
وبلا مساومة.





