
في زوايا شوارع السويد الباردة، حيث تنخفض درجات الحرارة إلى ما دون الصفر، وتغطي الثلوج الأرصفة، تظهر بين الحين والآخر مشاهد تذيب ببرد الشتاء القارس.
أحد هذه المشاهد هو علاقة بسيطة معلقة على جدار، تتدلى عليها معاطف وجاكتات بأحجام وألوان مختلفة، وترافقها لافتة كُتبت بخط واضع: “إذا كنت تشعر بالبرد وتحتاج إلى جاكيت… خذه مجاناً.”
على الجهة الأخرى من اللافتة، تكملة الفكرة الإنسانية: “إذا كان لديك جاكيت لا تحتاجه… علقه هنا لمن يحتاجه ” .
عبارتان بسيطتان، لكنهما تحملان فلسفة عميقة في التضامن الإنساني والعطاء غير المشروط.
ثقافة العطاء اللامرئي هذه المبادرة ليست منظمة من قبل جمعية خيرية كبرى، ولا هي جزء من حملة إعلامية مدعومة.
إنها انبثاق تلقائي من ضمير المجتمع، حيث يقرر أشخاص عاديون أن يصنعوا فرقاً بسيطاً لكنه عميق في حياة من حولهم.
في السويد، كما في العديد من المجتمعات الأخرى، توجد تقليديات مشابهة لكن بتفاصيل مختلفة أرفف كتب مجانية، ثلاجات طعام مشتركة، وأماكن لتبادل الملابس.
ما يميز “علاقة المعاطف” هو مباشرتها وتوقيتها.
ففي فصل الشتاء الاسكندنافي القاسي، يصبح الدفء ليس رفاهية، بل ضرورة للبقاء، خاصة للأشخاص الذين بلا مأوى، أو للقادمين الجدد الذين لم يتأقلموا بعد مع البرد، أو حتى لأولئك الذين مرّوا بظروف مادية صعبة.
كيف تعمل هذه الدائرة الإنسانية؟
زيارة إلى أحد هذه المواقع تكشف تفاصيل مؤثرة فيوجد معاطف شتوية ثقيلة، قفازات، قبّعات ووشاحات.
كل قطعة معلقة بعناية، وكأنها في خزانة شخصية.
يأتي من يحتاج، يختار ما يناسبه، ويأخذه دون أسئلة أو أوراق أو إجراءات.
وفي المقابل، يمرّ المتبرعون ويتركون ما يجودون به من ملابس قد تكون جديدة وقد تكون مستعملة لكن في حالة جيدة.
النظام يعتمد على الثقة المطلقة، وهي قيمة اجتماعية راسخة في المجتمع السويدي.
لا حاجة لمراقبة، ولا خوف من سرقة، لأن المنطق هنا مختلف كل ما على العلاقة هو “مُتاح” بالضرورة، وهو موجود أساساً ليُؤخذ.
رسالة تتجاوز القماش فعلم الاجتماع يشرح ذلك “هذه المبادرات الصغيرة تمثل نسيجاً مهماً من نسيج التضامن المجتمعي.
إنها تذكرنا بأن الإنسانية لا تحتاج إلى مشاريع ضخمة ومعقدة، بل يمكن أن تبدأ بخطوة بسيطة.
كما أنها تشكل رسالة ضمنية لأفراد المجتمع، وخاصة للأجيال الناشئة، عن أهمية العطاء والاهتمام بالآخرين.”
وتضيف دراسات علم الاجتماع إنه “في زمن تزداد فيه النزعات الفردية والانعزالية، تأتي مثل هذه الأفعال لتعيد التوازن، وتؤكد أننا مجتمع واحد، يتحمل أفراده مسؤولية تجاه بعضهم البعض.”
قصص من على العلاقة
دفء لا يقتله البرد ففي النهاية، هذه العلاقة البسيطة ليست مجرد قطع قماش معلقة.
إنها رمز لشيء أكبر لإنسانية لا تعرف الحدود، ولرحمة لا تنتظر مقابلًا، ولثقة تبنى مجتمعات أقوى.
إنها تذكير بأن الدفء الحقيقي لا يصنعه الصوف والريش فحسب، بل يصنعه الاهتمام بالآخر.
في أحد أبرد بلاد العالم، تثبت مثل هذه اللفتات أن دفء القلوب يمكنه أن يهزم أي صقيع.
وفي شارع سويدي، تبقى تلك العلاقة البسيطة منارة صغيرة، تذكر كل مارٍّ بها أن الخير لا ينضب، والعطاء لا يتوقف، والإنسانية تنتصر دوماً، حتى في أصعب الظروف.
“خذ ما تحتاج.. أعط ما تستطيع”.. ربما تكون هذه أبسط وأجمل معادلة إنسانية عرفها البشر.







