
في الشوارع الواسعة لمصر العريقة، حيث تدور عجلة الزمن بحكمة الآلاف السنين، تجري هذه الأيام انتخابات يفترض أن تكون مناسبة وطنية كبرى، لكن المفارقة تكمن في هدوء الشوارع، في سكون غير مألوف، في غياب واضح لأي حماسة أو حتى اهتمام، الناس في بيوتهم، والشوارع خاوية من أي مظاهر انتخابية حقيقية، وكأن شيئاً لا يحدث في البلاد.
هذا الصمت ليس صمت القبور، بل هو صمت الاحتجاج، هذه المقاطعة الهادئة ليست علامة على اللامبالاة أو الجهل السياسي، بل هي فعل مقاومة سياسي راقٍ، إنها رسالة واضحة من الشعب المصري إلى كل من يدير المشهد السياسي “نحن نرفض أن نكون كومبارس في مسرحيتكم”.
فالأرقام تروي قصة مأساوية، فبعد أن كانت نسبة المشاركة في أعقاب ثورة ٢٥ يناير تصل إلى ٤٠% وأكثر، أصبحت اليوم في بعض الدوائر الانتخابية لا تتجاوز ٣%، ولا تزيد في أحسن الأحوال عن ١٠%، هذا الانهيار الكارثي في نسبة المشاركة ليس حادثاً عابراً، بل هو مؤشر خطير على حالة الاحتقان السياسي والسخط الشعبي الذي يعيشه المصريون.
والسؤال الجوهري هنا، لماذا يقاطع الشعب المصري الانتخابات بهذه الطريقة الصامتة والحاسمة في نفس الوقت؟ الإجابة تكمن في عدة أسباب عميقة ومنها، فقدان الثقة في العملية الانتخابية، فلقد تحولت الانتخابات في مصر من عملية ديمقراطية لاختيار ممثلي الشعب إلى مجرد “طقس شكلي” تتم هندسة نتائجه مسبقاً، الشعب لم يعد يصدق أن صوته سيكون مؤثراً أو حتى محسوباً، وكذلك الهندسة الانتخابية المفضوحة، لقد أصبح مصطلح “الهندسة الانتخابية” علنياً، حيث يتم توزيع المقاعد عبر القوائم المغلقة المطلقة، ويتم التحكم في نتائج الدوائر الفردية عبر آليات مختلفة، والشعب يرى ذلك جيداً، ويرفض المشاركة في لعبة مُزورة، وأيضاً غياب الخيارات الحقيقية، فلم يعد هناك فرق حقيقي بين مرشحي السلطة والمعارضة المدجنة، الجميع يقدمون أنفسهم بنفس الخطاب، وينفذون نفس الأجندة، الشعب لم يعد يجد من يمثله حقاً، وأخيراً تدخل الأجهزة الأمنية في العملية الانتخابية أصبح واضحاً للعيان، من اختيار المرشحين إلى توجيه الناخبين، وهذا ما دفع الكثيرين إلى القول “إذا كان الأمن هو الذي سيقرر، فلماذا نتحرك من بيوتنا؟”
هذه المقاطعة الواسعة يجب أن تُقرأ كفعل مقاومة وطني، وليس كفعل استسلام، فالشعب المصري ليس جاهلاً بالسياسة، بل هو متقدم على نظامه السياسي، إنه يرفض أن يُهان عقله بمسرحيات الانتخابات الهزلية، ويرفض أن يُستخف بإرادته.
الشعب ينتظر اللحظة التي يكون فيها صوته مسموعاً، وفعله مؤثراً. ينتظر لحظة تكون فيها الانتخابات نزيهة، والمرشحون حقيقيون، والنتائج تعبر عن الإرادة الشعبية الحرة.
هذه المقاطعة تقدم درساً مهماً لكل القوى السياسية في مصر وأولهم الحكومة والنظام، يجب أن يدركوا أن الشعب لم يعد يقبل بالديكور الديمقراطي، الإصلاح الحقيقي لم يعد خياراً، بل أصبح ضرورة لبقاء الدولة واستقرارها، وللمعارضة يجب أن تعيد النظر في أساليبها ومواقفها، فالشعب لم يعد يثق في معارضة تتفاوض خلف الأبواب المغلقة، وتشارك في لعبة مزورة، وللمجتمع المدني يجب أن يلعب دوراً أكبر في توعية المواطنين، والمطالبة بإصلاح حقيقي للنظام الانتخابي.
ولكي تعود الحياة السياسية إلى مصر، ولكي يعود المصريون إلى المشاركة الإيجابية في الانتخابات، لا بد من خطوات جادة من إصلاح حقيقي للنظام الانتخابي يضمن نزاهة وشفافية العملية، وإيجاد فضاء سياسي حقيقي يسمح بتعدد الآراء وحرية التعبير، وكذلك محاسبة المتورطين في مهزلة الانتخابات الحالية.
مصر التي قدمت للعالم أولى حضارات الإنسانية، تستحق أن يكون لها نظام سياسي يليق بتاريخها وحضارتها، والشعب المصري الذي صنع المجد عبر العصور، يستحق أن يكون صوته مسموعاً، وإرادته محترمة.
درس المقاطعة يجب أن يكون ناقوس خطر يوقظ الجميع من سباتهم، فالديمقراطية الحقيقية ليست ترفاً، بل هي ضرورة لاستقرار البلاد، والوقت لا يزال متاحاً لتصحيح المسار، لكن الإرادة السياسية هي التي ستحدد مصير الوطن.







