مقالات وآراء

محمد عماد صابر يكتب: النصيحة واجب والمشورة حق.. حتى لو لم تستجب القيادة.(3)

شدّتني قراءة مقال بعنوان: “النصيحة في جماعة الإخوان المسلمين: قراءة شرعية مقاصدية في ضوء منهج الإمام البنا وتجربة الجماعة”، للكاتب المقاصدي المرموق الأستاذ محمد محمد أبو عجور، صاحب «دار الكلمة» و«الدار المغربية». وقد بدأ المقال بسؤال جوهري حمل عنوان: «لماذا التركيز على خلق النصيحة؟».

اعقب على هذا السؤال بسؤال: ولماذا يجب أن نستمر في النصح حتى لو لم تستجب القيادة؟… والمقصود بالقيادة هنا؛ كل القيادات فى كل الادارات والميادين، فى كل الجمعيات والمنتديات فى كل الروابط والجاليات، فى كل دواوين الحكومات، فى كل مكان بلا استثناء.


من السنن الكونية والشرعية التي تقوم عليها نهضة الأمم والحركات أن يبقى باب النصيحة مفتوحًا، وأن يستمر صوت الإصلاح حاضرًا مهما تغيّرت الظروف أو تصلّبت القيادات. فالنصيحة في الإسلام ليست مبادرة شخصية، بل هي فريضة عامة دلّ عليها الوحي وأكدتها التجارب التاريخية.


روى الإمام مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الدين النصيحة” (صحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث رقم 55).وعندما سُئل: لِمَن؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامّتهم» (المصدر نفسه). هذا الحديث ليس نصًا وعظيًا فقط، بل هو أصل دستوري في الإدارة الإسلامية، يوجب استمرار النصيحة حتى لو لم تستجب القيادة.

“النصيحة مسؤولية شرعية لا يسقطها رفض القيادة”


الشرع لا يربط واجب النصيحة بمدى قبول القائد، بل يربطه بصدق المكلف وأمانته. فقد روى النسائي في سننه: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» (سنن النسائي، كتاب البيعة، حديث رقم 4209)،وهذا النص يجعل قول كلمة الحق واجبًا مستقلًا، لا تُبطله حساسية القيادة ولا تمنعه القوة ولا يُلغيه الخوف. وقال العلماء في شرح الحديث: “البلاغ شرط التكليف، وأما القبول فليس شرطًا في الأجر.”- ابن حجر، فتح الباري، جـ13، صـ48. وبذلك يصبح النصح واجبًا حتى لو لم يلتفت القائد إليه؛ لأن التكليف متعلق بالعبد، لا بالنتيجة.

ولذلك وجب علينا أن نشير إلى؛ “أثر غياب النصيحة في سقوط الجماعات والأمم”. جرى سنن الله في التاريخ أن الجماعات التي تسكت عن الخطأ تهلك، وأن الهزيمة تبدأ من اللحظة التي يتحول فيها صوت النصيحة إلى همس خائف أو صمت مُحرَج.


وقد نقل الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعذاب» (سنن الترمذي، كتاب الفتن، حديث رقم 2168). هذا الحديث لا يعني فقط الظلم السياسي، بل يشمل فساد القرار وغياب الشورى والتعنت الإداري الذي يصيب بعض القيادات.


والخطر الأكبر يبدأ حين تتحول القيادة إلى “حلقة مغلقة” لا تسمع إلا صوتها. وقد أشار ابن خلدون في مقدمته إلى هذا المعنى بقوله: “إذا تغلبت العصبية وغُلّقت أبواب المشورة، فسد العمران”- المقدمة، الفصل 23.

“استراتيجية الحق: لماذا يجب أن نستمر في النصح؟”


  • 1- لأن تحولات الحركات التاريخية تعتمد على لحظات استيقاظ متأخرة، فكثير من الحركات عادت إلى النصائح القديمة بعد سنوات من الإهمال، واعتمدتها أساسًا لمراجعاتها. يشير حسن البنا في “الرسائل” إلى هذا المعنى بقوله: “أقيموا ميزان الحق ولا تهابوا في الله لومة لائم”- رسائل الإمام الشهيد، رسالة المؤتمر الخامس، صـ115 (ط. دار الدعوة).
  • 2- لأن النصيحة تمنع احتكار القرار.

  • فمن طبيعة النفوس أنها تنغلق إذا لم تجد من يصححها. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي»- رواه ابن أبي شيبة في “المصنف”، جـ6، صـ114.
  • 3- لأن السكوت عن الخطأ مشاركة فيه. والشرع يحمّل الفرد مسؤولية الإنكار حتى لو لم تقبله السلطة. قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، (سورة الذاريات: 55).
  • 4- لأن استمرار النصيحة يربي الأجيال على المسؤولية لا التبعية. والجيل الذي يتربى على النقد البنّاء يصبح جيلًا واعيًا قادرًا على حمل المشروع.
  • 5- لأن ثقافة الشورى هي “جهاز المناعة” للمؤسسات. وقد جعل الله الشورى مبدأ قرآنيًا ملزمًا: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (سورة الشورى: 38).

القيادة تتبدل.. والواجب يبقى ثابتًا.


التجارب التنظيمية المعاصرة تثبت أن النفوس تتصلب مع الزمن. يقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه “من فقه الدعوة”: “لا يجوز أن تتعطل الدعوة لأن قيادتها لا تقبل النقد.. فالنقد حياة، والسكوت موت.”- صـ212، ط. دار الشروق.
وبذلك، تبقى النصيحة واجبًا حضاريًا لا يسقط بتغيّر القيادات.

“هل النصيحة تمرد؟ أم إصلاح؟”

البعض يخلط بين النصيحة وبين التشهير أو الهدم. لكن القرآن رسم الحدّ الفاصل: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ (سورة النحل: 125). وشرط النصيحة أن تكون: بلغة مهذبة، بأدلة راسخة، ببديل عملي، بلا هوى، بدون تقطيع لوحدة الصف. وهذا ما فعله العلماء والفقهاء مع الخلفاء عبر التاريخ.


حين يتراجع صوت الناصحين تكثر المخاطر وتزيد التحديات. قال ابن تيمية: “إن الجماعة إذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقع بينهم التنازع وذُهِبَت هيبتهم”- مجموع الفتاوى، جـ28، صـ126.


وحين تضيق القيادة بالنقد، تبدأ المخاطر: تضخم الذات، تكرار الأخطاء، تقديس الأشخاص، هجرة الشباب، ضعف الثقة، الانقسام ثم السقوط.

في المؤسسات العريقة ينبغى على القيادة أن توفر المناخ المناسب حتى يتقدم الأفراد بنصائحهم ورؤاهم واقتراحاتهم، وذلك بالبعد عن تجريح سمعة من يتقدمون بالنصيحة، أو اتهامهم بالانفلات وعدم الانضباط ومحاولة هدم التنظيم، أو عبر التلميح بأن النصيحة هدفها تحقيق مآرب شخصية، أو من أجل تنحية القيادة والحلول محلها..


كما يجب على القيادة الواعية أخذ النصح الذي يقدم إليها بجدية، والاستماع إليه ودراسته بجدية، واستدعاء الناصح ومناقشته بجدية فيما يقول والثناء على جهده، لأن عدم الاكتراث بالجهد المبذول والنصائح المقترحة يرسل رسالة واضحة للمرؤسين في اي مؤسسة مفادها أن عليك أن تعمل فيما كلفت به فحسب، وان نصائحك لا قيمة لها…


إن أكثر ما يجعل الجنود في اي مؤسسة يتحمسون لنصح قيادتهم هو التواصل المستمر بين القيادة العليا للمؤسسة والجنود وبناء علاقة دافئة يسودها الحب والإخاء، ولا يكون ذلك إلا بنزول القيادة للجنود والتواصل الأخويَ معهم بشتي السبل وفتح بابها باستمرار للجميع..


وفي الاخير فإن مناخ الاستبداد الذي ساد مجتمعاتنا لفترات طويلة والذي بني حاجزا ضخما بين القيادة والجنود في شتى مؤسسات الدولة، ينبغي له أن يتبدد ويزول، وخاصة في المؤسسات الدعوية والإصلاحية، وليكن شعار القيادة دائما في باب النصيحة المقولة العمرية الشهيرة: لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها.

الخلاصة؛


النصيحة في الإسلام واجب شرعي ثابت ( مسلم– النسائي– الترمذي ). وهي مبدأ إداري لا يقوم مشروع من دونه ( ابن خلدون– ابن تيمية )، وهي ضرورة إصلاحية أشار إليها البنا والقرضاوي وغيرهم من أعلام حركة الإصلاح.
إن لم تستجب القيادة.. فهذا لا يعفي الفرد؛ وإن لم تُقبل النصيحة.. فإن الله يقبلها؛ وإن ضاق صدر البشر،

فباب السماء لا يُغلق.
واجِبُكَ أن تنصح. واجِبُهُمْ أن يسمعوا. والله يجزي المصلحين.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى