
في العاشر من ديسمبر كل عام، يطلّ العالم على ذكرى اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948؛ وثيقة تأسيسية حاولت أن تُلملم جراح البشرية بعد حربين عالميتين، وأن تؤسّس لمعايير أخلاقية وقانونية جديدة تحفظ كرامة الإنسان أينما كان.
بعد أكثر من سبعين عامًا، ما زال هذا اليوم مناسبة لإعادة التذكير بأن الحقوق والحريات التي وُلدت من رحم المأساة ليست مكتسبات نهائية، بل التزامات تحتاج إلى حراسة دائمة، وإلى إرادة سياسية واجتماعية تُحوّل المبادئ إلى واقع ملموس.
وعلى الرغم من التطور الهائل في منظومة القانون الدولي، لا يزال ملايين البشر حول العالم يواجهون انتهاكات تتراوح بين التهجير القسري والإخفاء والتعذيب والتمييز والعنف والسلب المنهجي للحقوق. ولذلك فإن اليوم العالمي لحقوق الإنسان ليس مجرد مناسبة احتفالية، بل لحظة للتقييم، وللاعتراف بأن الطريق ما زال طويلًا، وأن الالتزام الأخلاقي والوطني والإنساني تجاه الضحايا لم يتحقق بعد بالشكل اللازم.
أولًا: مركزية الضحايا في الخطاب الحقوقي المعاصر
حين نتحدث عن حقوق الإنسان، فإن أول ما يجب أن تُوجَّه إليه البوصلة هو الإنسان ذاته: الضحية. فالضحايا ليسوا مجرد أرقام في تقارير، ولا هامشًا في خطاب سياسي، بل هم جوهر أي مشروع إصلاحي. إن الإنصاف يبدأ من سماع رواياتهم، والاعتراف بمعاناتهم، وضمان أن تكون حقوقهم ومطالبهم في صدارة أي عملية عدالة أو مصالحة أو إصلاح مؤسسي.
لقد أثبتت التجارب الدولية أن تجاهل الضحايا يُنتج هشاشة مجتمعية يصعب ترميمها. في جنوب إفريقيا مثلًا، شكّلت شهادات الضحايا أمام لجنة الحقيقة والمصالحة نقطة تحول في بناء سردية وطنية مشتركة، وفي التأسيس لسلام اجتماعي طويل المدى. وفي تشيلي والأرجنتين، كان الاعتراف بجرائم الديكتاتوريات السابقة خطوة أساسية لترميم الثقة بين المجتمع والدولة.
إن دعم الضحايا دون أي تمييز—سواء كان على أساس العرق أو الطائفة أو النوع الاجتماعي أو الانتماء السياسي—هو حجر الأساس لأي مشروع للعدالة. فالضحايا، بعقودهم المنقضية أو بجراحهم الراهنة، هم المرآة التي تُظهر واقع المجتمع، وتكشف نقاط العطب في بنيته السياسية والقانونية.
ثانيًا: الإفلات من العقاب… جرح مفتوح يقوّض الدولة والمجتمع
لا يمكن الحديث عن حقوق الإنسان دون التوقف عند مسألة الإفلات من العقاب، وهي واحدة من أخطر الأزمات التي تواجه المجتمعات المعاصرة. فحين تُرتكب الانتهاكات ولا تُواجَه بالمساءلة، تتآكل الثقة العامة، ويختل ميزان العدالة، ويُفتح الباب أمام تكرار الجرائم.
تُعرّف مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان (OHCHR) الإفلات من العقاب بأنه “غياب التحقيق المناسب في الانتهاكات، أو عدم محاكمة المسؤولين، أو عدم معاقبتهم بما يتناسب مع خطورة الجرائم”. وتشير المفوضية إلى أن التهاون في المساءلة يخلق ثقافة خطيرة تُشجّع على المزيد من الانتهاكات.
لقد أثبتت التجارب في مناطق عديدة من العالم أن الإفلات من العقاب لا يُهدد الضحايا فقط، بل يهدد استقرار المجتمع برمته. ففي غياب العدالة، تتحول الانتهاكات إلى ممارسة طبيعية، وتظهر شبكات نفوذ تُشرعن العنف والفساد، وتُضعف سيادة القانون. والأسوأ من ذلك، أن الإفلات من العقاب يُرسل رسالة خطيرة مفادها أن حياة بعض المواطنين أقل قيمة من غيرهم، وأن حقوقهم قابلة للتفاوض أو الإهمال.
ثالثًا: العدالة شرط السلام وليس عائقًا أمامه
تاريخيًا، كانت هناك سردية تقول إن “العدالة تُعرقل السلام”، وكثيرًا ما جرى اللجوء إلى حلول سياسية على حساب المساءلة، بحجة تسريع الاستقرار. لكن الأدبيات الحديثة والدراسات المقارنة تُظهر أن هذا الافتراض لم يكن يومًا صحيحًا.
تشير تقارير معهد السلام الأمريكي (USIP) إلى أن الدول التي أقامت مسارات عدالة انتقالية شاملة—تجمع بين المحاسبة، وكشف الحقيقة، وتعويض الضحايا، والإصلاح المؤسسي—كانت أكثر قدرة على بناء سلام طويل الأمد مقارنة بالدول التي اختارت تجاهل الانتهاكات.
العدالة ليست انتقامًا، بل عملية مجتمعية تُعيد التوازن إلى ما اختلّ، وتمنح مساحة للضحايا ليكونوا جزءًا من مستقبل بلدهم. وهي أيضًا رسالة إلى الجناة بأن الدولة لا تتسامح مع الانتهاكات. السلام الذي يُبنى على النسيان القسري سلام هشّ، بينما السلام الذي يقوم على الاعتراف والمساءلة هو وحده القادر على الصمود أمام الأزمات.
ولهذا نقول إن العدالة ليست عقبة أمام السلام… بل شرط وجوده. فالمجتمع الذي لا يحاسب من ارتكب الجرائم لن يتمكن من منع تكرارها، ولن يستطيع بناء مؤسسات قوية تستند إلى ثقة المواطنين.
رابعًا: نحو مسار وطني شامل للعدالة الانتقالية
إن بناء مسار وطني للعدالة الانتقالية ليس خيارًا تجميليًا، بل ضرورة استراتيجية. والعدالة الانتقالية لا تعني الاقتصار على المحاكمات؛ بل تشمل منظومة متكاملة تستند إلى أربعة ركائز:
- 1. كشف الحقيقة: الحقيقة ليست رفاهية. إنها أساس المصالحة. فقوة المجتمعات تكمن في قدرتها على مواجهة الماضي بشجاعة، لا في تزيينه أو دفنه. لجان الحقيقة في العالم أثبتت أن توثيق الانتهاكات يساعد على فهم ما حدث، وعلى تجنب تكراره.
- 2. العدالة الجنائية: لا تستقيم العدالة دون محاسبة. قد تتنوع الآليات، لكن المبدأ ثابت: لا أحد فوق القانون. المحاكمات العادلة تعزّز الردع، وتؤكد أن الدولة تقف إلى جانب الضحايا، لا الجناة.
- 3. جبر الضرر: الضحايا يحتاجون إلى الاعتراف بما جرى لهم، وإلى تعويضٍ يعيد لهم شيئًا من الكرامة المفقودة. جبر الضرر قد يكون ماديًا، أو معنويًا، أو رمزيًا، لكنه دائمًا خطوة أساسية في مسار التعافي الوطني.
- 4. الإصلاح المؤسسي: لا يمكن بناء مستقبل جديد بمؤسسات قديمة مسؤولة عن انتهاكات الماضي. الإصلاح يشمل القضاء والأمن والإدارة، وهو ضمانة لكي لا تتكرر الانتهاكات.
العدالة الانتقالية ليست عقابًا للماضي، بل حماية للمستقبل. وهي شرط أساسي لأي دولة ترغب في ترسيخ السلم الأهلي، وتعزيز ثقة المواطن في مؤسساتها، وإعادة بناء عقد اجتماعي يقوم على المساواة وسيادة القانون.
خامسًا: اليوم العالمي لحقوق الإنسان… بين الرمز والمسؤولية
كثيرون ينظرون إلى المناسبات الدولية باعتبارها رمزية. لكن هذا اليوم تحديدًا يحمل أهمية عملية تتجاوز الشعارات. فهو مناسبة لتقييم التقدّم، ولتحديد مكامن الخلل، ولتجديد الالتزام تجاه الضحايا. وفي عالم تتعدد فيه الأزمات—من النزاعات إلى التغير المناخي إلى الهجرة القسرية—تبدو الحاجة إلى منظور حقوقي شامل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
في العام 2023، رفعت الأمم المتحدة شعار “الحرية والمساواة والعدالة للجميع”، وهو شعار يذكر بأن الحقوق ليست انتقائية، وأن العدالة لا تتحقق إلا حين تشمل الجميع.
اليوم العالمي لحقوق الإنسان ليس مجرد ذكرى؛ إنه دعوة واضحة إلى الفعل. إنه تذكير بأن الدول الناجحة هي التي تضع العدالة في صميم مشروعها السياسي، لا تلك التي تهمّش الضحايا أو تؤخر المساءلة أو تتعامل مع الحقوق بوصفها منحة لا استحقاقًا.
سادسًا: لماذا نعيد التوكيد على ضرورة إنهاء الإفلات من العقاب؟
السبب بسيط وعميق في آن: لأن الإفلات من العقاب هو البوابة التي تدخل منها كل أشكال الانتهاكات. حين يُدرك الجناة أن القانون لن يلاحقهم، يزداد العنف ويتكرس الظلم. وحين يشعر الضحايا بأن
المعتصم الكيلاني ، المختص في القانون الجنائي الدولي وحقوق الإنسان







