
غيابان وقعا في الساعات الأخيرة، لا كخبرٍ يُتلى، بل كأثرٍ يتسلّل ببطء إلى القلب. لحظةٌ يتراجع فيها الصخب، ويتقدّم المعنى، كأن مصر اختارت الصمت لتقول ما لا يُقال.
الدكتور محمد عبد الله
ابن الإسكندرية الذي حمل البحر في نبرته، والمدينة في مزاجه، والسياسة في أخلاقه قبل خطابها. لم تكن الدولة عنده موقعًا، بل سلوكًا؛ ولم تكن الدبلوماسية منصّة، بل ذوقًا إنسانيًا يُمارَس في التفاصيل الصغيرة. عرفته إنسانًا يسبق اللقب، وصديقًا يسبق الموقع، ورجل دولة لا يرفع صوته لأنه واثق من حجته.
رحلات القطار بين بروكسل وباريس كشفت جوهره بعيدًا عن العدسات: تواضعٌ بلا ادّعاء، ووفاءٌ لا يتبدّل، ومحبةٌ صريحة لمدرسة الوفد ولقامة فؤاد باشا سراج الدين. عاش أكبر من لحظته، فحاصرته اللحظة؛ بقي واقفًا في المسافة التي تحفظ الكرامة، لا قريبًا بما يكفي ليُستدعى، ولا بعيدًا بما يكفي ليُقصى. غاب الجسد، وبقي الأثر؛ وفنارة الإسكندرية تعرف طريقها، حتى حين يخفت الضوء.
محمد هاشم
قلبُ القاهرة الذي كان يخفق بالحبر لا بالهتاف. ناسكُ الكلمة، وحارسُ وسط البلد، وآخر المؤمنين بأن الثقافة صلاةٌ طويلة لا تُقاس بالعائد. دار ميريت لم تكن عنوانًا على لافتة، بل بيتًا للقلق الجميل، ومائدةً يجلس حولها المختلفون بلا شروط.
نشر لمن كتبوا بقلوبهم قبل أسمائهم، ووقف في الشارع حين اختار غيره الشرفات، وآمن بأن الثورة تبدأ جملةً صادقة قبل أن تصير هتافًا. لم يُحسن لعبة السوق لأنه اختار لعبة المعنى. لم يُراكم لأنه أنفق عمره بسخاء. لم يحسب الربح لأنه عرف أن المجد لا يُخزَّن.
قسا المشهد حين عوقبت الروح بمنطق الجباية، وحين حوسبت الثقافة بأرقامٍ لا تفهمها. غير أن ميريت—كما شرقيات—ليست دارًا تُغلق، بل فصلًا لا يُطوى. قد تختفي اللافتة، وقد يُمحى العنوان، لكن تاريخ الكتابة في هذه المدينة لا يُروى دون المرور من هناك.
وجعٌ لأن القاهرة بدونه تُشبه مسرحًا أُطفئت أنواره وبقي الديكور. حزنٌ لأن قبائل الرداءة ضجّت في السماء ثم هبطت، وتركت المكان عاريًا من النبل.
سلامٌ على الجدع المصري الذي لم يساوم، ولم يبدّل جلده، ولم يعتذر عن انحيازه للكلمة.
وسلامٌ على رجلٍ علّمنا أن السياسة يمكن أن تكون أخلاقًا، وأن الثقافة يمكن أن تكون وطنًا.
خسارةٌ لا تُقاس بالزمن، بل بالضوء. وفي الساعات الأخيرة، تراجع الضوء خطوة… وبقي علينا أن نحرس ما تبقّى منه.







