شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب وجوه لا تغيب أمين الرافعي… حين صار القلمُ وطنًا

يجيء أمين الرافعي في الذاكرة لا كاسمٍ في كتاب، بل كنبضٍ قديمٍ ما زال يطرق أبواب الحاضر. يولد اليوم من جديد، لا بتاريخ ميلاده، بل بما تركه من رجفةٍ في يد الطغيان، ومن يقينٍ في قلب الوطن بأن الكلمة إذا صدقت صارت سيفًا، وإذا خلصت غدت صلاة.

خرج أمين الرافعي إلى الدنيا في الزقازيق، زمنَ كانت مصر فيه تتعلّم كيف تقول “لا” بلغتها الخاصة. لم يكن الميلاد حدثًا عابرًا، بل بداية سيرة لقلمٍ قرر مبكرًا ألا يكون شاهد زور. تعلّم القانون في مدرسة الحقوق، لكنه آمن أن العدالة لا تسكن النصوص وحدها، بل تحتاج من يحملها في صدره ويواجه بها العالم.

اختار طريق مصطفى كامل، لا لأن الرجل زعيم، بل لأن الفكرة كانت وطنًا. انتمى إلى الحزب الوطني، وكتب في جريدة اللواء، فكانت المقالة بيانًا، وكان العنوان مظاهرة، وكانت الجملة الأولى دائمًا بداية اشتباك مع الاحتلال لا نهاية رأي.

تنقّل بين الصحف كما يتنقّل المقاتل بين الخنادق؛ العدل، العلم، الشعب، وكلها كانت أسماءً لمعركة واحدة. كتب ضد الاحتلال الإنجليزي، وصرخ في وجه الغزو الإيطالي لليبيا، ورأى العروبة قدرًا لا شعارًا، وكتبها بدم القلب لا بحبر المكاتب.

لم يغفر له الإنجليز صدقه، فكان الاعتقال نصيبه في الحرب العالمية الأولى. خرج من الزنزانة أكثر وضوحًا، كأن الحديد صقل المعنى لا الجسد. أنشأ جريدة الأخبار، فصارت منبرًا لا يُشترى، حتى حين أغضب الملك فؤاد ورفض حلّ مجلس النواب، فأُغلقت الجريدة وعادت أكثر شراسة، معلنة أن الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا ليست عبارة بل عقيدة.

اقترب من حزب الوفد زمن الثورة، وعمل مع سعد زغلول، ثم افترق الطريقان. اختلفا، لا على حب الوطن، بل على كيف يُستردّ. رفض المناصب، وترك المواقع، واختار العزلة الشريفة، حيث لا سلطان فوق الكلمة، ولا وصاية على الضمير.

ظلّ أمين الرافعي يكتب وحده، مستقلاً كما ينبغي للكلمة الحرة أن تكون. صار القلم عنده مدفعًا، والفكرة حصنًا، والمقالة صلاة صباحية في محراب الحرية. ترك كتبًا تشبهه؛ صادقة، حادة، موجعة، كأنها كُتبت لتبقى لا لتُرضي.

رحل مبكرًا، في التاسع والعشرين من ديسمبر عام ألفٍ وتسعمائةٍ وسبعةٍ وعشرين، لكن مصر خرجت كلّها في وداعه. شيّعته كما تُشيّع الأوطان أبناءها الكبار، لأن الناس أدركوا، بالفطرة، أن هذا الرجل لم يكن صحفيًا فقط، بل كان معنى.

يبقى أمين الرافعي شاهدًا على زمنٍ كانت فيه الصحافة موقفًا، والكلمة قدرًا، والكاتب مشروع تضحية. لذلك لم يغب، ولن يغيب، لأنه من أولئك الذين إذا رحلوا جسدًا، بقوا ضميرًا… من وجوه لا تغيب.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى