صراع النيل: أزمة تاريخية تكشف وجه العلاقات المصرية الإثيوبية
تتوالى أصداء أزمة سد النهضة على المشهد السياسي في الشرق الأوسط، مُعززةً التوترات بين مصر وإثيوبيا. تسببت سنوات من الفشل في المفاوضات، التي استمرت لعقد من الزمن، في تصاعد حدة الخطاب بين الدولتين.
ويشكل النيل، الذي تنبع 85% من مياهه من الأراضي الإثيوبية، محور الصراع، حيث أصبح السد الذي يُبنى على نهر النيل رمزًا للاحتقان الجيوسياسي.
هذا الصراع ليس وليد اللحظة، بل يمتد بجذوره إلى عمق التاريخ، حيث لطالما كانت مياه النيل محط اهتمام الحكام المصريين، الذين أدركوا منذ القدم أهميته في تطوير البلاد واستمرارية الحياة فيها.
لذا، كانت العلاقات مع إثيوبيا، المعروفة تاريخيًا باسم الحبشة، تتأرجح بين الدبلوماسية والمواجهة العسكرية، تعبيرًا عن الصراع المستمر على السيطرة.
على الجانب الآخر، فهم الحكام الإثيوبيون قيمة مياه النيل كأداة استراتيجية تعزز من نفوذهم. في القرن الرابع عشر، أرسل سلطان الحبشة رسالة تهديد إلى سلطان مصر، مُشددًا على ضرورة السيطرة على مجرى النيل الذي يُعتبر شريان الحياة لمصر.
تتضمن هذه الأزمة منعرجات هامة في تاريخ العلاقات المصرية الإثيوبية، حيث شهدت المعارك التاريخية، مثل جوندت وجورا، تجسيدًا لصراع مستمر على منابع النيل.
في مطلع القرن التاسع عشر، أدرك محمد علي باشا أهمية الجغرافيا السياسية للسودان وشرق إفريقيا. ونتيجة للتنافس الاستعماري، قام بتوسيع الحدود المصرية لتشمل أجزاء واسعة من السودان وإريتريا، مُستغلًا الفوضى السياسية التي كانت تعم القارة الأفريقية.
استمرت جهود التوسع مع الخديوي إسماعيل، الذي قرر استكشاف منابع النيل في إثيوبيا وأوغندا، ولكن بطريقة غير تقليدية، إذ اعتمد على مستكشفين أجانب لتنفيذ خططه التوسعية. كان السير صمويل بيكر من أبرز هؤلاء، حيث ساهم في استكشاف بحيرات النيل وإطلاق أسمائها.
ورغم نجاح إسماعيل في تحقيق بعض المكاسب، إلا أن ذلك تم على حساب سيادة مصر، حيث كان المستكشفون يعملون لصالح مصالح بلدانهم. ووفقًا للمؤرخ عبد الرحمن الرافعي، كان يتعين على إسماعيل إدراك أن هذه السياسات لم تكن في صالح مصر.
بمرور الوقت، نجحت القوات المصرية في تأسيس وجود عسكري في مناطق مثل أوغندا وجنوب السودان، وأعلنت السيطرة على أعالي النيل.
ولكن سرعان ما تكشفت التحديات الجغرافية والمعوقات التي فرضتها طبيعة الأراضي الإثيوبية، ما أدى إلى إخفاق حملات التوسع العسكري.
في عام 1875، أطلق الخديوي إسماعيل حملة عسكرية بقيادة الأميرال الدانماركي أدولف سورن آرندروب، للتوسع نحو إثيوبيا. لكن ما لبثت أن قوبلت هذه الحملة بمقاومة شديدة من القوات الإثيوبية، مما أدى إلى هزيمة مدوية.
في معركة جوندت، اعتمد الإثيوبيون على تكتيك الحصار، حيث قاموا بمباغتة القوات المصرية مما أدى إلى مقتل عدد كبير من جنودها، وكان من بينهم القادة الأجانب. كانت هذه الهزيمة ضربة قاصمة لمكانة مصر العسكرية والسياسية.
استمرت الإخفاقات مع الحملة الثانية التي قادها محمد راتب باشا، حيث كرر الجيش المصري نفس الأخطاء التكتيكية. وبالرغم من التفوق العددي، إلا أن القوات الإثيوبية كانت قد أعدت العدة بشكل جيد، ما أدى إلى انتصار كبير لهم في معركة جورا عام 1876، حيث تكبدت مصر خسائر فادحة.
نتج عن هذه الحملات العسكرية خسائر ضخمة، تُقدر بـ8500 قتيل وديون تتجاوز ثلاثة ملايين جنيه، ما أدى إلى تأثيرات سلبية مستدامة على الاقتصاد المصري.
ومع تصاعد الضغوط الداخلية والخارجية، تراجعت مصر عن مشروعاتها التوسعية، وانتهى الأمر بخروجها من السودان وأوغندا بحلول عام 1885 تحت ضغط البريطانيين.
تعد هذه الحوادث التاريخية ليست مجرد فصول من الماضي، بل تجسيد لمشكلات معاصرة حيث يستمر الصراع حول مياه النيل في التأثير على العلاقات بين مصر وإثيوبيا.
تصاعد التوترات اليوم يعيد إلى الأذهان تلك اللحظات التاريخية، ويُبرز أهمية إعادة تقييم الاستراتيجيات والسياسات المائية بين الدول المتشاطئة.
بذلك، يُسجل التاريخ صراعًا مُعقدًا يتجاوز مجرد السيطرة على منابع المياه، ليعكس التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي تمر بها المنطقة.
ورغم محاولات الحوار والمفاوضات، يبقى الجرح مفتوحًا، مما يستدعي الحكمة والدبلوماسية لإيجاد حلول مستدامة تضمن حقوق جميع الأطراف المعنية.