عبدالناصر: بطل زائف في زمن الديكتاتورية والفساد
توفي جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، لكن ذكرى رحيله تجسد انقسامًا عميقًا في التاريخ المصري والعربي.
وتأتي هذه الذكرى في سياق إرث عسكري خيم على مجريات الأحداث منذ انقلاب 23 يوليو 1952، والذي لم يكن مجرد ثورة شعبية، بل كان بداية لحقبة من الهيمنة العسكرية والتضليل الإعلامي.
ويتساءل الكثيرون: من هو جمال عبد الناصر في حقيقة الأمر؟ هل هو البطل الذي رسمه التاريخ، أم أنه رمز آخر للديكتاتورية؟
في مناهج التعليم، غالبًا ما نتعرض لصورة مثالية عن عبد الناصر، تصوره كقائد عظيم منح الشعب المصري والعربي الأمل في التحرر والتنمية.
ولكن الحقيقة المرة تفيد بأنه كان شخصية سياسية طامعة، غدرت باللواء محمد نجيب، أول رئيس لمصر بعد الثورة، حيث أُجبر نجيب على الإقامة الجبرية في فيلا مهجورة، تعكس هذه الحادثة بوضوح الوجه الآخر لعبد الناصر.
لقد استخدم عبد الناصر سلطته ليتبنى نمطًا من الحكم الديكتاتوري، حيث قام بملاحقة وإبادة المعارضين، خاصة من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين ساهموا في نجاح الثورة. بدلاً من الوفاء بوعوده، وجد هؤلاء أنفسهم خلف القضبان، مما شكل بداية لعهد من الظلم والقمع.
مع بداية حكم عبد الناصر، بدأ الفساد يتفشى بشكل غير مسبوق. لقد أطلق العنان لأساليب تضليل الشعب المصري والعربي، من خلال إعلام زائف وصحافة فاسدة.
واقتصاد البلاد، الذي كان قد شهد فترات من الرخاء، بدأ في الانهيار. كان الجنيه المصري يساوي ثمانية جنيهات استرليني في عهد الملك فاروق، لكنه شهد انهيارًا مروعًا مع وصول عبد الناصر للحكم. تدهورت الزراعة، بما في ذلك زراعة القطن، مما أثر بشكل كبير على الثقافة والدين.
لم يكن عبد الناصر مجرد زعيم، بل كان بداية لعصر من الديكتاتورية. لقد أُعدم العديد من المعتقلين السياسيين، وكانت تدخلاته في شؤون البلدان العربية تبريرًا لتوسيع نفوذه، دون مراعاة للعواقب.
وحرب اليمن، التي زج فيها أكثر من 15000 جندي مصري، كانت واحدة من أكبر الكوارث التي سببها عبد الناصر. لقد أثرت هذه الحرب بشكل كبير على الجيش المصري، مما أدى إلى نكسة 67 التي لا تزال تُعد واحدة من أحلك الفترات في التاريخ المصري.
المقارنة مع دول أخرى، مثل سنغافورة، تبرز الفجوة الكبيرة في النتائج. بينما شهدت سنغافورة نهضة اقتصادية ملحوظة، غرقت مصر في الديون والحروب. وبذلك، نستنتج أن عبد الناصر لم يكن رمزًا للنهضة بل بداية لحقبة من الفشل.
بينما يذكر البعض إنجازات عبد الناصر مثل تأميم قناة السويس وبناء السد العالي، يجب أن نتساءل: بأي ثمن؟ لقد أدت سياساته إلى إرهاق البلاد بالديون، وعمقت الفساد بشكل أكبر. كيف يمكن للناس أن يثقوا بشخص قلب ظهره لقائده وأخيه محمد نجيب؟
تظهر مذكرات محمد نجيب بوضوح الصراع الذي دار بينه وبين عبد الناصر، حيث كان نجيب يسعى لتسليم السلطة إلى الشعب عبر انتخابات نزيهة، بينما كان عبد الناصر يفضل السيطرة المطلقة. هذا الصراع يبين بوضوح طبيعة الحكم في تلك الفترة، والتي كانت تعتمد على القمع والاستبداد.
التاريخ لم يكن محايدًا في تناول عبد الناصر، فالإعلام والمناهج الدراسية ساهمت في تشكيل صورة زائفة عنه، كقائد عظيم ومخلص. لكن الحقيقة تكشف أن عبد الناصر كان مجرد واجهة لنظام عسكري يمارس نفس سياسات الملكية التي زعم أنه قضى عليها.
ما زال الكثيرون ينظرون لعبد الناصر كزعيم، لكن واقع الأمر يؤكد أن فترة حكمه كانت مليئة بالفساد والانقسامات.
ومن الصعب تصديق أن رجلًا كان يحكم بقبضة حديدية، ويعتمد على قمع المعارضين، يمكن أن يكون بالفعل بطلاً. فقد كانت الدعاية الإعلامية والمناهج التعليمية تروج له كرمز للعدالة الاجتماعية، بينما كان الواقع بعيدًا عن ذلك.
ليس من الغريب أن نجد أحفاد عبد الناصر يتحدثون عن إرثه وكأنهم يمتلكون الوطن. هذه الفكرة تتجلى في تصريحات نجله الذي دعا المعارضين لمغادرة البلاد، وكأنها ملكية خاصة له ولعائلته. هذا المفهوم يسلط الضوء على الطريقة التي تم بها استغلال الوطنية لتبرير السيطرة العسكرية.
إن التعامل مع مفاهيم الوطنية والانتماء كان جزءًا أساسيًا من استراتيجية النظام، حيث تم تصنيف كل من يعارضه كخائن. هكذا، تمكن النظام العسكري من استخدام الحرب على الفساد كمبرر للبقاء، حيث كان يُصنّف أي شخص يختلف مع الرأي الرسمي كعدو للوطن.
من الواضح أن عبد الناصر كان محظوظًا في التعامل مع الإعلام الذي ساعد في خلق صورة زائفة عنه. في فترة حكمه، كانت الدعاية الوطنية تتلاعب بالعقول، وتروج لشعارات الاستقلال، بينما كانت الحقيقة أن البلاد كانت تعاني من الاستبداد والفساد.
وبمرور الزمن، تأكدت هذه المفاهيم في العقول حتى أصبحت نمطًا متكررًا بين الحكام العسكريين. كلما ظهر نظام عسكري جديد، كانت تثار شعارات الدفاع عن الوطن ضد الخونة، مما يخلق حالة من القمع والاستبداد.
وفي نهاية المطاف، فإن ما يختصر تجربة عبد الناصر هو حقيقة أنه لم يكن مجرد قائد، بل كان بداية لفترة مظلمة في التاريخ المصري. لقد ساهم في تعزيز المفاهيم الخاطئة حول الوطنية والسلطة، مما ساهم في استدامة الأنظمة الديكتاتورية حتى اليوم.
لقد شكل عبد الناصر جزءًا من التاريخ المصري الحديث، لكنه ترك وراءه إرثًا معقدًا مليئًا بالتحديات والصراعات. إن محاولات فهم تلك الفترة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار كل هذه الأبعاد، لنفهم كيف تشكلت هياكل السلطة واستمرت على مر العقود.