تعد مدينة المنصورة إحدى أبرز المدن في دلتا النيل، إذ تحتضن تاريخًا عريقًا وثقافة غنية، ولكنها تواجه اليوم أزمة خانقة تتمثل في تدمير معالمها التراثية وتحويلها إلى خرابات، وكل ذلك تحت أعين الحكومة التي تتجاهل ما يحدث بشكل فاضح.
يتجلى هذا الفشل الحكومي في مشروعات عشوائية وسوء إدارة مستمر أضعف من مكانة المنصورة وأفقدها جزءًا كبيرًا من هويتها.
في السنوات الأخيرة، كان هناك العديد من المشاريع التي قوبلت بانتقادات واسعة من قبل المواطنين والمهتمين بالتراث، حيث تمت المباشرة فيها دون إجراء دراسات جدوى كافية، مما أدى إلى إهدار موارد الدولة وتحويل معالم تاريخية إلى أطلال، أو حتى أماكن تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات.
الحكومة، التي من المفترض أن تكون حامية لهذه الأصول، أظهرت تقاعسًا صارخًا في أداء واجبها، مما زاد من معاناة سكان المدينة وأضر بمصالحهم.
مول المشاية: نموذج للفشل الحكومي
يُعتبر مشروع مول المشاية من أبرز الأمثلة على هذا الفشل. فقد تم إنشاء 70 محلًا تجاريًا على أنقاض حديقة شجر الدر التاريخية، وهو مشروع كان من المفترض أن يعيد الحياة إلى المنطقة، لكنه تحول إلى كارثة.
الحديقة، التي تمتد على مساحة 14 فدانًا، تم الاستيلاء عليها وتحويلها إلى بناء خرسانية تفتقر إلى الجمالية وتسبب في إهدار قيمتها، والتي تُقدّر بمليارات الجنيهات.
ما يزيد الأمر سوءًا هو أن المشروع قوبل بمعارضة شديدة من قبل المواطنين الذين أدركوا الخطر الذي يشكله هذا القرار. ورغم ذلك، استمرت الحكومة في تنفيذ المشروع، متجاهلةً التحذيرات والدعوات القضائية لوقف هذه المهزلة.
تجسد مول المشاية اليوم صورة مأساوية لهيكل فارغ من الحياة، حيث هجرت المحلات من قبل أصحابها بعد فترة قصيرة، مما يجعله رمزًا للفشل والفساد في إدارة المشاريع.
هذا التدمير المتعمد لم يعد مجرد قضية محلية، بل بات يعكس فشل الحكومة في الحفاظ على الأصول الوطنية، ويفضح زيف الشعارات التي ترفعها عن التنمية المستدامة.
قصر الشناوي: تحفة معمارية تحتضر
تُعتبر حكاية قصر الشناوي من أبرز قصص الفشل الإداري في مصر. القصر، الذي أُقيم في عام 1928، يعتبر من التحف المعمارية التي يجب أن تكون فخرًا للدولة.
كان من المتوقع أن يُحوّل إلى متحف يعكس تاريخ المنطقة، ولكن الحكومة، بدلًا من ذلك، أدت إلى تدهور حالته بشكل متسارع.
بعد شرائه من ورثة صاحبه في عام 2005، تم تخصيص ميزانية ترميم للقصر، لكن التنفيذ كان بطيئًا حتى لم يعد بالإمكان التعرف على معالمه الأصلية.
الحديقة المحيطة بالقصر، التي كانت ملاذًا للعائلات، تحولت إلى مجرد مكان للإهمال، حيث تآكلت الأشجار وتم هدم الكثير من المعالم الجمالية. بدلاً من أن يكون هذا القصر مركزًا ثقافيًا وفنيًا، تحول إلى مكتب للموظفين، مما يمثل إهدارًا صارخًا للتراث والتاريخ.
يظهر هذا الإهمال كأحد أكثر الأمثلة وضوحًا على الفساد المستشري في إدارة الأصول الحكومية، حيث إن الأموال التي تم صرفها على القصر لم تُستخدم كما ينبغي، بل هُدرت في مشروعات لا تعكس إلا الفشل.
حديقة الحيوان: نهاية مؤلمة لمشروع تاريخي
لا يمكن الحديث عن الخراب في المنصورة دون الإشارة إلى حديقة الحيوان، التي كانت يومًا ما وجهة مفضلة لأبناء المدينة.
كانت الحديقة، التي تبرع بها أحد الأثرياء، تمثل رمزًا للفخر وتاريخًا طويلاً من الذكريات الجميلة، لكن الحكومة تسببت في تدمير هذا الإرث.
تم تهجير جميع الحيوانات من الحديقة، وتحولت الأشجار الخضراء إلى كتل خرسانية. أُقيمت في المكان 45 محلًا تجاريًا، لكن مصير هذه المشاريع كان مشابهًا لمصير مول المشاية، حيث إن العديد منها تم التخلي عنه، تاركًا الحديقة كخربات تعكس الفشل المستمر في التخطيط والتنفيذ.
ما حدث في حديقة الحيوان يعكس فكرًا مدمرًا، حيث تم تجاهل ما تم تقديمه كمنطقة ترفيهية، ليتم تحويلها إلى منطقة تجارية.
هذا التوجه لا يعكس فقط سوء إدارة، بل يوضح أيضًا غياب رؤية استراتيجية واضحة تحافظ على التراث وتعمل على تطويره بطريقة مستدامة.
صرخة ضد الإهمال
لا شك أن ما يحدث في مدينة المنصورة هو جرس إنذار للجميع. هذه المعالم التاريخية التي كانت جزءًا من هوية المدينة تحتاج إلى حماية وإدارة فعّالة، لكن الحكومة، من خلال تجاهلها المستمر، تفتح الباب أمام الفساد والإهمال.
إن الشعب المصري اليوم مدعو أكثر من أي وقت مضى للمطالبة بحماية هذه الأصول وإعادة النظر في السياسات المتبعة التي أدت إلى هذا الدمار.
يجب أن يكون هناك وقفة جادة ضد الفساد في إدارة الأصول العامة، كما ينبغي أن تكون هناك استجابة سريعة لمطالب المواطنين للحفاظ على التراث.
الحفاظ على الهوية الثقافية ليس مجرد واجب، بل هو ضرورة للحفاظ على مستقبل الأجيال القادمة. إن ما يحدث في المنصورة هو مؤشر على حالة من التراجع والانحدار، وعلينا جميعًا أن نتحرك قبل أن نفقد المزيد من تاريخنا وإرثنا.
ولا تزال المنصورة تعاني من آثار الفساد والإهمال، ويجب أن يكون هناك تحرك جاد لاستعادة معالمها التاريخية. إن التاريخ لا ينتظر، والوقت حان لنقف جميعًا في وجه الفساد ولنتحرك لحماية ما تبقى من هويتنا.