كارثة التأمين الصحي في مصر: خدمات متدهورة، وصرخات تتجاهلها الحكومة

في الوقت الذي تعلن فيه الحكومة المصرية عن توسع منظومة التأمين الصحي الشامل وتطوير المستشفيات الحكومية، يعيش ملايين المواطنين واقعًا صحيًا مغايرًا تمامًا، تغلب عليه معاناة يومية من الإهمال ونقص الأدوية وسوء المعاملة.
فرغم الأرقام الرسمية التي تشير إلى ارتفاع نسب الرضا وجودة الخدمات، لا تزال طوابير الانتظار والقرارات المؤجلة والمرافق المتهالكة تفرض نفسها على المشهد الصحي.
موقع “أخبار الغد” يرصد من قلب الشوارع والمستشفيات حكايات واقعية، وشهادات مريرة من مواطنين ومختصين يكشفون وجها آخر لمنظومة يُفترض أن تكون ملاذًا للمرضى، لكنها تحوّلت في نظر كثيرين إلى عبء إضافي ومعاناة مركّبة.
صرخات من قلب المعاناة: شهادات حية تكشف الوجه الآخر للمنظومة الصحية
أوضح محمد عبد الرحمن، موظف حكومي من القاهرة، أن تجربته مع مستشفيات التأمين الصحي كانت “كارثية بكل المقاييس”.
فبعد إصابته بألم في الصدر، توجه إلى أحد المستشفيات الحكومية التي يُفترض أنها مخصصة لحالات الطوارئ، إلا أنه ظل منتظرًا في قسم الاستقبال أكثر من 5 ساعات دون أي تدخل طبي يُذكر.
يقول: “الناس بتموت حرفيًا على الكراسي، والممرضين مشغولين إما في الموبايلات أو في الجدال مع المرضى”. محمد يؤكد أن غياب الرقابة والمحاسبة أدى لتدهور غير مسبوق في الخدمة الصحية التي وصفها بأنها “إهانة لإنسانية المرضى”.
أكدت فاطمة علي، ربة منزل من الجيزة، أنها فقدت الأمل في الحصول على علاج مجاني مناسب من خلال التأمين الصحي، خاصة بعد أن تم رفض صرف الدواء المقرر لها لأكثر من مرة بحجة “عدم توافره بالمخزن”.
وتقول: “كل مرة يقولولي الدواء ناقص.. طب وبعدين؟ أروح أشتريه بفلوس مش معايا؟”. تؤكد فاطمة أن المشكلة ليست في النظام فقط بل في القائمين عليه، من إداريين غير متعاونين وأطباء مرهقين لا يقدمون شيئًا سوى “مسكنات كلام”.
أشار أحمد حسن، طالب جامعي من الإسكندرية، إلى أن تجربة والده مع التأمين الصحي انتهت بنقله إلى مستشفى خاص بعد تدهور حالته بسبب الإهمال.
“الدكتور كتب له فحص أشعة، قالوله بعد 3 أسابيع. إزاي مريض قلب يستنى 3 أسابيع؟!”، يتساءل أحمد. ويضيف أن الدولة تتحدث عن التأمين الصحي الشامل، بينما الواقع هو “تأمين للورق فقط، مش للناس”.
أوضحت ليلى محمود، موظفة من الشرقية، أنها خرجت من مستشفى التأمين الصحي دون أن يتم الكشف عليها بعد 6 ساعات من الانتظار، بسبب “انتهاء ساعات العمل الرسمية”.
تقول: “الأطباء قفلوا العيادات ومشيوا الساعة 1 الظهر، وسابونا قاعدين”، وتعتبر أن هذه “مهزلة تتكرر يوميًا في مختلف المحافظات”.
أكد سامي عبد الله، علي المعاش من أسوان، أن كبار السن هم الفئة “الأكثر إهمالًا” في النظام الصحي الحالي. “علشان أعمل تحليل سكر لازم أسافر لأسيوط؟ هو ده اللي اسمه تأمين شامل؟”، يتساءل سامي، الذي يطالب بضرورة إنشاء مراكز تأمين صحي فعلية في المحافظات الحدودية والجنوبية.
أشارت نجلاء سعيد، معلمة من المنيا، إلى أن منصة حجز المواعيد الإلكترونية للمستشفيات الحكومية “شكلية” ولا تعمل إلا في العاصمة.
وتقول: “جربت أحجز لبنتي كشف عيون، كل يوم يدخلني على صفحة مش شغالة. والبديل؟ طوابير مهينة من 5 الصبح”.
أوضح خالد مصطفى، عامل من البحيرة، أنه لا يملك رفاهية اللجوء للمستشفيات الخاصة، ولا يثق في نظافة المستشفيات الحكومية. ويضيف: “الحمامات ريحتها تطرد الشفاء من المريض.. ولما تشتكي يقولولك: اتعالج ببلاش واسكت”.
أكدت منى عبد العزيز، طالبة من بورسعيد، أن مستشفى النصر للتأمين الصحي ببورسعيد قدم لها خدمة محترمة، لكن التجربة الإيجابية كانت “استثناء لا قاعدة”. تضيف: “أغلب اللي اعرفهم في المحافظات التانية بيشتكوا. يبقى المنظومة مش مستقرة، ولا عادلة”.
أشار حسن إبراهيم، سائق من سوهاج، إلى أن النقص المزمن في الأدوية والمحاليل الطبية “أصبح واقعًا لا يُمكن تجاهله”. يقول: “آخر مرة أخويا اتنقل لمستشفى حكومي، طلبوا منّا نشتري المحلول من برّة!”.
أوضحت سعاد محمد، ربة منزل من دمياط، أنها شعرت بالإهانة بعد صراخ ممرضة في وجهها حين طالبت بالكشف السريع لطفلها المصاب بحمى مرتفعة. “قالتلي: مش عاجبك روحي خاص.. هو فيه كده؟”، وتبكي وهي تقول: “ده ابني! مش ورقة طابور”.
أكد محمود عبد الحليم، موظف من الفيوم، أن خدمة التأمين الصحي لا تقدم أي دعم حقيقي. “بتخصمولي من المرتب ومبتدينيش خدمة تليق، طب فين العدل؟”. يعتقد محمود أن “الفلوس بتروح لجيوب الكبار مش للمرضى”.
أشارت هدى علي، طالبة من الأقصر، إلى أنها وجدت عناية جيدة في إحدى الوحدات الصحية بعد إدخالها ضمن منظومة التأمين الشامل. لكنها تحذر: “الناس فاكرة كل الوحدات كده، لكن الحقيقة إن ده نتيجة ضغط إعلامي مش أكثر”.
أوضح ياسر عبد الله، موظف من كفر الشيخ، أن إدارة الوقت في المستشفيات الحكومية معدومة. يقول: “مريض ينتظر 6 ساعات على كشف بسيط، والممرضة تقولك: متعودين على الزحمة”.
أكدت إيمان حسن، ربة منزل من بني سويف، أن “الخدمة في مستشفيات التأمين فيها نوع من اللامبالاة الكاملة بحياة الإنسان”. وتصف تجربتها مع مستشفى حكومي بأنها “كانت سببًا في تعقيد حالة ابنتها الصحية”.
أشار عمرو عبد العزيز، مهندس من الغربية، إلى أن مشروع التأمين الصحي الشامل هو “مشروع عظيم على الورق فقط”، ويضيف: “التطبيق؟ سيئ، مهمل، مليان ثغرات، وفيه كتير فساد”.
أوضحت نادية مصطفى، معلمة من القليوبية، أنها رأت تحسنًا نسبيًا في النظافة فقط، ولكن “بقية المنظومة لسه على حالها: طوابير، تأجيل، ونقص دواء”.
حقائق صادمة على لسان المختصين: بين وعود التنمية وصرخة الواقع
أوضح الدكتور أحمد السبكي، رئيس هيئة الرعاية الصحية، أن منظومة التأمين الشامل تلقت أكثر من 100 ألف شكوى تم حل 99.9% منها، وأن مستوى رضا المواطنين وصل إلى 91%. إلا أن محللين يرون أن الأرقام لا تعكس الصورة الحقيقية التي تنقلها شكاوى الناس على الأرض.
أكد الدكتور أحمد طه، رئيس هيئة الاعتماد والرقابة الصحية، أن أكثر من 260 منشأة تم اعتمادها لضمان الجودة. إلا أن مراقبين يطرحون تساؤلات حول كفاءة تلك المنشآت في ظل العجز البشري والمالي.
أشار الدكتور علي محروس، نائب مدير مستشفى التأمين، إلى أن المستشفيات تخدم أكثر من 49 مليون مواطن، لكنه يقر بأن الموارد “لا تكفي” وأن الطواقم الطبية تعاني من “الضغط والانهاك”.
أوضح الدكتور محمد معيط، وزير المالية السابق، أن فائض التأمين الصحي وصل لـ67 مليار جنيه، وهو ما أثار تساؤلات حول: “لماذا لا تنعكس هذه الأموال على تحسين الخدمة؟”
أكد الدكتور خالد عبد الغفار، وزير الصحة، أن الوزارة تعمل على تطوير البنية التحتية، لكنه لم يحدد جدولًا زمنيًا لتغطية العجز في التخصصات والأدوية في المحافظات الفقيرة.
تعكس آراء المواطنين والمختصين تباينًا في تقييم منظومة التأمين الصحي الشامل في مصر. بينما تشير التقارير الرسمية إلى تحقيق نسب رضا مرتفعة وتحسينات في جودة الخدمات، يواجه بعض المواطنين تحديات في الحصول على الرعاية الصحية المناسبة.
فمن القاهرة إلى أسوان، تتكرر القصص ذاتها: معاناة، تأجيل، طوابير، وإهمال. ورغم أن الدولة ترفع شعار “تأمين صحي شامل”، إلا أن الواقع يصرخ بحقائق لا يمكن تجاهلها. فهل نرى إصلاحًا جذريًا؟ أم ستظل “خدمات التأمين” مجرد وهم على بطاقات المرضى؟