مقالات وآراءملفات وتقارير

د. صبري سميرة يكتب : رفع العقوبات عن سوريا الجديدة: بداية تحوّل تاريخي لاستقرار ونهضة المنطقة وقيام دولة فلسطين في ذكرى نكبتها”

هل يصنع ترمب وقادة المنطقة السلام للجميع؟

من غزة إلى سوريا: مساران متكاملان في لحظة تحول استثنائية


“في غزة.. ورؤية استراتيجية لبناء مستقبل مشترك على وقع كارثة إنسانية وتضحيات أسطورية، نهاية حرب تاريخية في غزة”،
اعتبرت حينها أن وقف الحرب في غزة – رغم شدتها واستمرار معاناة الغزيين – يمثل نقطة تحول تاريخية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفي توازنات المنطقة، ويفتح الباب أمام مشروع إقليمي جديد، أكثر توازنًا وعدلًا وإنسانية.

واليوم، ورغم أن الحرب الكارثية لم تتوقف، وسيعاني أهلها لسنوات قليلة بعد وقفها بالواجب، أجد نفسي أواصل المسار نفسه، لأن لحظة رفع العقوبات عن سوريا ليست أقل أهمية، بل هي خطوة مكملة ومتسارعة في نفس السياق التحويلي:

  • لحظة تعبر عن نهاية حقبة من الدمار والتفكك والصراعات والحروب الداخلية وبالوكالة.
  • وبداية مرحلة بناء حقيقية للدولة والمجتمع.
  • وانفتاح على شراكات عادلة ومستقرة بين دول وشعوب المنطقة.

ما ورد في مقال غزة لا زال صالحًا في حيث الاتجاه والمضمون، فهذه الخطوة السورية تعزز وتفعل تلك الرؤية، وتعيد توجيه الأنظار نحو مستقبل يمكن بناؤه بلا سلاح وتحالفات صدامية، بل بشراكات متكافئة ومصالح متبادلة وسلام منهجي واقعي.


سوريا الجديدة: من الساحة المستباحة إلى الدولة المستقلة

رفع العقوبات عن سوريا يمثل اعترافًا دوليًا بأن الصيغة السابقة للدولة السورية قد انهارت، وهناك فرصة لبناء صيغة جديدة أكثر استقلالًا وسيادة وأقل خضوعًا للنفوذ الخارجي وأجندات الميليشيات.

سوريا الجديدة، بقيادتها ومجتمعها، أمام اختبار تاريخي:
هل يمكن أن تتحول من عبء على المنطقة إلى فاعل في الاستقرار والتنمية والتكامل الإقليمي؟

الإجابة ليست فقط في يد السوريين، بل هي مسؤولية جماعية لأبناء المنطقة وقياداتها، وللقوى الدولية التي ساهمت في تعقيد المشهد، ولها الآن فرصة للمساهمة في إصلاحه.

ورفع العقوبات ليس فقط إجراءً قانونيًا دوليًا، بل هو بوابة اقتصادية وسياسية لفتح المجال أمام الاستثمارات والمشاريع والبنى التحتية والاندماج الإقليمي الحقيقي، إن أُديرت بإرادة جماعية وحرص حقيقي على القطيعة مع منطق الصراعات الطويلة المدى.


إعادة تعريف الدور الأمريكي: مصالح عليا لا تنازلات مجانية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في خطوة جريئة برفع العقوبات، لم يقدم “هدية مجانية”، بل جاء منسجمًا مع أطروحاته وسياساته وأعاد رسم حدود المصلحة الأمريكية العليا الحقيقية:

  • أمريكا تحتاج إلى منطقة مستقرة لتقليل تكاليفها الأمنية.
  • تحتاج إلى أسواق وفرص اقتصادية وتنموية.
  • تحتاج إلى شركاء حقيقيين يوفرون لها ما تطلب منهم.

برزت المنطقة مجددًا كشريك لا عبء فقط. ليس المطلوب الانفجار العنيف بل آن الأوان أن يتوقف ولتقطف الفرص المستمدة من الاستقرار والتعاون معها. ما يحدث ليس مجرد مبادرة رئاسية، بل جزء من صفقة استراتيجية كبرى بين أمريكا والمنطقة، ولا يمكن أن تؤتي التحولات ثمارها فعليًا بدون انخراط أوسع للشركاء الدوليين، بقيادة الأمم المتحدة والقوى الغربية، والسماح لقوى عالمية أخرى أيضًا يمكن أن تلعب دورًا متكاملاً في دعم مسارات الإعمار وتعزيز السلام المدني، بعيدًا عن الاصطفافات الضيقة، وجوهرها:

  • بناء استقرار شامل،
  • وتحجيم أي تهديد أو نفوذ توسعي لأي قوة على حساب غيرها،
  • وتحويل سوريا وساحات النفوذ الأخرى إلى دولة ومصالح متقاطعة لا صراعات صفرية.

من المهم إدراك أن أمريكا لا ترتب المنطقة من الفراغ أو المثالية، بل لأنها أدركت أن فوضى المنطقة تكلّفها أكثر، وأن الحل ليس في مزيد من التورط بل في منع آثار الفوضى بالحوار والإصلاح بين المتنازعين، والعلاقات التعاونية، والشراكات الذكية.


قادة المنطقة: من إدارة التوازنات إلى صناعة المستقبل

رغم إخفاقهم في حرب غزة المريرة ورغم شعور الشعوب بخيبة الأمل، إلا أن قادة المنطقة – جميعهم – أثبتوا في السنوات الماضية، رغم إصرار بعضهم على تجريب المسار المدمر، أنهم ليسوا مجرد متلقي سياسات الخارج، بل فاعلون قادرون على التغيير الاستراتيجي إذا توافرت الإرادة والوعي الجمعي.

وعملوا بعلاقات وخطوات استراتيجية وعملية لبناء فرص لهذا التغيير.

ما يحدث في سوريا، وفلسطين، وما يظهر في ملفات أخرى، يشير إلى نضج سياسي واستراتيجي إقليمي متزايد تجاوز منطق المحاور والتصعيد، نحو منطق التعاون وبناء التحالفات الذكية والمتوازنة، ولصالح كل نظام ودولة وللمنطقة وشعوبها في النهاية.

تحرك بدايات هذا التحول ليس فقط في السياسات، بل في المفاهيم:

  • من الهيمنة إلى الشراكة
  • من الصراع الصفري إلى التوازن البناء
  • من التبعية إلى استقلال القرار الإقليمي بمسؤولية.

وكل ذلك يمهد لبناء توازن جديد في العلاقات بين الدول، ويكرس معادلة:
“نأخذ بقدر ما نعطي، ونؤثر بقدر ما نتحمل من مسؤولية.”

وهو الأجدر بالاستثمار الدولي والإقليمي اليوم لتحويل سوريا من ساحة إلى دولة.


الشعوب والنخب والمعارضات: نحو عقلانية تاريخية جامعة

من الواضح أن معظم دول المنطقة تعاني من اختناقات بنيوية حادة من استبداد وفساد واختلالات اقتصادية وضغوط حياتية ثقيلة.

في المقابل، أدت تجارب الصراعات الدامية والانقسامات الداخلية التي خاضتها جماعات وشعوب والمعارضات – بما فيها الإسلامية – غالبًا إلى نتائج كارثية عمقت الاستبداد بدل إضعافه، وشرّدت المجتمعات بدل تحريرها، وفتت الكيانات السياسية والمدنية والنخبوية كركائز أساسية لقيام مجتمعات ونظم سياسية مكتملة وناضجة.

لقد آن الأوان لجميع الأطراف:

  • الحكومات والأنظمة
  • المعارضات السياسية والاجتماعية والنخبوية
  • التيارات الإسلامية والإصلاحية بكل أطيافها
  • المجتمع المدني بنقاباته ومؤسساته ومبادراته المستقلة

أن يباشروا حوارًا تاريخيًا وواعيًا وجادًا، يؤسس لخريطة طريق طويلة الأمد تتيح لكل دولة تطوير مؤسساتها نحو ديمقراطية رشيدة وإصلاح عام وحوكمة فعالة على مدى عقود متتالية.

وهذا لا يعني تبرئة الأنظمة أو تأبيد الاستبداد، بل يعني إعطاء مساحة متبادلة لبناء الثقة وتجنب الانهيارات، ويتيح للأنظمة الحاكمة أن تقدم تنازلات سياسية ناضجة لصالح الجميع على المدى الطويل.

بهذه المقاربة، يمكن:

  • الانتقال إلى التداول السلمي للسلطة
  • تركيز الجهود الإقليمية على التنمية والتكامل بدل التنافس والتحريض
  • بناء نموذج تعاون جماعي كما حصل في أوروبا بعد حروبها ونجحت في تجربة الاتحاد الأوروبي.

الاقتصاد الجديد: بوابة الاستقرار الحقيقي

رفع العقوبات عن سوريا لا يحمل فقط أبعادًا سياسية وأمنية، بل يفتح الباب أمام فرص اقتصادية هائلة للمنطقة.

من إعادة الإعمار، إلى تكامل شبكات الطاقة والنقل، إلى تنشيط التجارة العابرة للحدود، يمكن لسوريا أن تصبح عقدة إقليمية ذات فائدة مزدوجة:

  • نمو داخلي في سوريا
  • نمو تكاملي في دول الجوار والمنطقة

ولا يتحقق ذلك إلا في مناخ استقرار، وليس في أجواء الفوضى أو بقاء المنظومات القديمة المتعفنة.

التحول نحو الشراكات الإقليمية المتوازنة يتطلب تحرير الاقتصاد من العقوبات، ومن الوصايات المتعددة: وصاية الخارج، ووصاية الميليشيا، ووصاية مافيات الفساد القديمة أو الناشئة إذا لم تُحسن إدارة البلاد.

وهنا تبرز الفرصة لبناء نموذج اقتصادي جديد، يرتكز على:

  • التنمية المستدامة
  • التمكين الإنتاجي
  • الاقتصاد الأخضر
  • تعزيز البنية الرقمية والحوكمة الاقتصادية
  • وأساس ذلك كله: تعزيز التعليم، والبحث العلمي، والاختراعات، والتكنولوجيا.

التحديات الواقعية: أسئلة لابد من مواجهتها

قد يسأل البعض:

  • ما الضمان أن النظام السوري سيتغير فعلاً؟
  • وما الذي يمنع إيران من مواصلة سياساتها؟
  • أو إسرائيل من عرقلة أي مشروع استقرار وسلام؟

الإجابة الواقعية: لا توجد ضمانات مطلقة في السياسة.

لكن البديل عن الفهم هو الفوضى،
والبديل عن الثقة المشروطة هو الانهيار التام.

المقاربة المطروحة تقوم ليس على حسن النوايا، بل على ميزان مصالح وقواسم مشتركة قابلة للتفاوض، وتدرج في التغيير، وانخراط جماعي في المتابعة والحَوكَمة.

لا يُطلب من النظام السوري أن ينقلب على نفسه، ولا من إيران أن تتنكر لتاريخها، ولا من إسرائيل أن تتخلى عن نفسها، ولا من الفلسطينيين أن يتنازلوا عن أوضح حقوقهم، ولا من شعوب المنطقة وأنظمتها ألا تسعى نحو مصالحها.

ما نطلبه هو انخراط الجميع في صيغ توازنات ذكية وواقعية تطور المصالح وتمنع الانهيارات وتُخرج الجميع من دوامات العداء والصراعات الصفرية المكلفة.


الشباب والنهضة: الحلم لا بد أن يعود

للشباب في المنطقة والعرب في الشتات الحق أن يحلموا،
ويجب تمكينهم، فهم أصحاب الكفاءات العالية والطاقة المتقدة، ويمثلون رصيدًا بشريًا واستراتيجيًا لا بد من استعادته لبناء نهضة مجتمعاتهم.

لا أن يُختصروا في معسكرات الصراع،
ولا أن يُحشروا في زوايا البطالة واليأس والهجرة.

إذا كانت المرحلة السابقة أُديرت بلغة السلاح والعقوبات والحروب، فالمرحلة القادمة يجدر أن تُدار بلغة الانفتاح والتسامح والتعاون والعلم والإبداع والمبادرات والتقنيات.

الشباب هم حملة التغيير الحقيقي، ولا نهضة مكتملة من دون تمكينهم:

  • عبر التعليم النوعي
  • المساحات الحرة للثقافة والفن والإعلام
  • فرص ريادة الأعمال
  • شبكات التواصل الإبداعي على مستوى الإقليم.

إيران وإسرائيل: أمام اختبار المصالح لا الأيديولوجيا

في ظل هذه التحولات، تفتح أمام إيران فرصة تاريخية للاندماج الطبيعي في المنطقة بأمن وسلام وشراكة، إن اختارت طريق الدولة لا الميليشيا، والمصلحة لا التوسع، والتنمية لا الإضعاف.

المنطقة ليست معادية لأحد، لكنها لن تقبل بسياسات الفوضى والتدخل والوصاية، سواء من إيران أو إسرائيل أو أي قوة أخرى تواصل السلوك نفسه.

لدى إيران فرصة حقيقية – سياسية واقتصادية واستراتيجية – إن قررت أن تكون جزءًا من مشروع توازن إقليمي طبيعي لا مشروع تصادم.

وإسرائيل كذلك أمام لحظة حاسمة: لن تستطيع الاستمرار بالصراع مع كل محيطها، ولا ينبغي لها فقدان مكانتها حتى وسط تحالفها الأول: الولايات المتحدة.

حتى أمريكا لها مصالح كبرى لن تفرط بها لممارسات إسرائيلية قصيرة النظر.

وعلى إسرائيل أن تدرك أن التطبيع الحقيقي لا يُمنح بل يُبنى ويكتسب:

  • بأن تقدم للمنطقة لا أن تطلب منها فقط،
  • تشارك وتبادر في مشاريع السلام لا أن تعرقلها،
  • تحترم الفلسطينيين شعبًا له الحق في تقرير مصيره وتتعاون معهم لإقامة دولتهم الحقيقية التي تمنح إسرائيل الأمن الحقيقي، لا أن تستمر في معاملتهم كأزمة وجودية أو أمنية أو تصنفهم كجنس من الدرجة الثانية.

قد يبدو هذا حلمًا مستحيلاً، لكنني واثق أن الحقيقة والواقع وفشل المحاولات الإسرائيلية سيدفعها لذلك إن لم تبادر من منطلق ضمير أو أخلاق أو عقل أو حسابات مصلحة واضحة، خصوصًا إذا تماسك الإقليم واستقر وتطور وتعاون مع بنيه وحكامه.


فلسطين: من المعاناة إلى القيادة

في المعادلة الإقليمية، يعزز موقع فلسطين سياسيًا واستراتيجيًا، ويرغم الجميع – من الغرب إلى الإقليم – على الاعتراف بأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يمكن القفز عليه، بل يجب حله بجدية.

وعلى الفلسطينيين أن يوحدوا صفوفهم ويطرحوا مشروعًا وطنيًا جامعًا وواقعيًا، وأن يدرك العالم أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 هو:

  • الحل المنطقي الوحيد
  • والمصلحة الأعمق للجميع
  • والضمانة الحقيقية لأمن إسرائيل والمنطقة معًا
  • وأهم من ذلك: إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني لأكثر من قرن، ووقف تشتتهم وتفرقهم في العالم.

نحو نهضة شاملة للمنطقة الأوسع

برؤى وبحوث ومبادرات مؤسسة MENA لتنمية المجتمعات الجديدة، نؤمن أن ما يجري في سوريا وفلسطين ولبنان واليمن والعراق والسودان والصومال، بل حتى في باكستان وأفغانستان وأذربيجان وغيرها، ليس شأنًا محليًا منفصلًا، بل جزء من مصير مشترك للمنطقة الأوسع.

الرؤية التي تبنيتها منذ عقود هي أن النهضة لا تُبنى بالانغلاق، بل بالحوار، ولا تُفرض بالسلاح والقهر، بل بالشراكة والتنمية المستدامة.

وسوريا الجديدة، إذا ما أُدير تحولها بحكمة وتعاون، يمكن أن تكون نموذجًا لدول أخرى للخروج من الفشل وبداية نهضة لها وللمنطقة.


الخاتمة – طريق السلام الحقيقي يبدأ الآن

في لحظة رفع العقوبات عن سوريا، نجد أنفسنا أمام مفترق طرق تاريخي: إما أن نواصل العيش في دوامة الحروب والصراعات والمؤامرات، وإما أن نُؤسس لشرق أوسط جديد قائم على:

  • العدل
  • المصالح المتبادلة
  • التنمية الشاملة
  • السلام الحقيقي الذي لا يُقصي أحدًا.

سوريا ليست لحظة شعارات، بل لحظة رسم طريق.

هذا ما أدعو إليه اليوم، كما دعوت إليه من قبل: أن نعيد بناء المنطقة بأيدي كل أبنائها وقادتها، بعدالة، وبرؤية تُعلي مصالح الإنسان وكرامته فوق كل حسابات قصيرة الأمد.

وأضع جهودي وخبرتي ومؤسستي وندائي دومًا في خدمة هذه الرؤية.

فلعل كلمة صادقة تُثمر، ولعل لحظة تحول يُحسن صُنّاعها إدارتها، فترسم مجرى التاريخ.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى