مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: شخصيات في حياتي (٦) خالد جمال عبد الناصر..ظلّ الزعيم ورفيق الدموع والورود


هناك شخصيات لا تعيش في دفاتر التاريخ وحدها، بل تظلّ في القلب شاهدًا على زمنٍ كامل. ومن هؤلاء صديقي العزيز خالد جمال عبد الناصر، الذي لم يكن مجرد “ابن الزعيم”، بل كان إنسانًا رقيقًا، خلوقًا، وصديقًا وفيًّا، صنع مكانته بنفسه لا باسمه.

كان أول لقاء لي معه في بلغراد، حيث لجأ سرًا بعد أن ورد اسمه في قضية “ثورة مصر”. رتّب اللقاء النقيب أحمدالخواجة بتنسيق مع أشرف مروان. دخلت بيته فوجدت وطنًا مصغّرًا في منفى بعيد.

في ذلك اللقاء التقيت لأول مرة بالزميل حمدين صباحي، وبالكاتب الراحل سليمان الحكيم. جلسنا ساعات طويلة نتبادل الهموم والأحلام.

فتحنا ديوان أمل دنقل، وقرأنا معًا قصيدة «لا تصالح». لم يكن مجرد شعر، بل كان عهدًا بالدمع. بكينا جميعًا، كأن القصيدة كانت مرآةً لضميرنا، وصرخةً لا تزال تتردد حتى الآن.

بعدها بسنوات، في لندن 1987، كنت أقضي شهر العسل. كان خالد يأتي يوميًا إلى الفندق الذي أقيم فيه، يضع أمام باب غرفتي باقة وردٍ صامتة ثم ينصرف. لم يطرق بابًا ولم يطلب لقاءً. كان رقيقًا كالنسيم، صادقًا كالوفاء، يترك أثرًا لا يزول.

لم يقترب خالد بأبهة “نجل الرئيس”، بل بحياء الأخ ونقاء الصديق. لم يكن يثقل بحضوره، بل يجعلك تفتقده حتى في غيابه.

دعاني إلى غداءٍ عائلي سياسي في مطعمٍ قريب من السفارة المصرية في لندن. كنتُ مع زوجتي، وهو مع زوجته، وحضر الأستاذ أحمد بهاء الدين وحرمه. كان الغداء أكثر من وجبة؛ كان مجلسًا ثقافيًا وإنسانيًا رسّخ علاقةً مهنيةً وإنسانيةً لا تُنسى.

بين بلغراد ولندن، أدركتُ أنني أمام رجلٍ لم يطلب لنفسه شيئًا، ولم يستغل اسم والده، بل عاش زعيمًا لنفسه: زعيمًا بالمروءة والصدق والإنسانية.

كان أستاذًا في الهندسة، لكنه كان معلّمًا في الأخلاق. علّمني أن الكرامة تُبنى باليوميات الصغيرة لا بالشعارات الكبيرة، وأن المروءة موقفٌ يتكرر حتى يصبح سيرة.

رحل خالد مبكرًا، لكن بقيت الذكريات: دموع بلغراد، ورود لندن، وغداءٌ لا يُنسى قرب السفارة. ظلّ الزعيم، وصديق الروح، ورفيق الدموع والورود.

وغدًا، أغادر صفحة الابن الوفي الذي حمل إرث أبيه بإنسانية رقيقة، لأكتب عن محمد عبده، معلمي الأول، الذي زرع بذرة الحلم، وغرس أول شجرة في قلبي ما زالت تؤتي ثمارها حتى اليوم.

أكتب عنهم ليبقى أثرهم، وأكتب عن نفسي لأبقى وفيًّا لهم.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى